الجنازة الأولى
كان طريقي الوحيد من مكان نزوحي إلى مكان نزوحي الثاني يمر عبر مقبرة واسعة ممتلئة بالقبور، كنت أسير وسطها في طريق رسمته أرجلُ المشاة بين القبور، كانت جماهير المشيعين تتكوم حول القبور في انتظار إتمام طقوس الدفن، انقطعت كل الاتصالات منذ أربعة أيام، لم نعد نعرف أسماء الشهداء، والأهم لم نعد نعرف حال بقية أهلنا المشتتين في أماكن النزوح، هل هم من المصابين والشهداء، أم هم من الناجين؟ لذلك لابد أن نذهب لرؤيتهم يوميا لنطمئن عليهم. كانت أكواُمُ المشيعين في صباح هذا اليوم تتحلق حول ثلاثة قبور في المقبرة التي امتلأت منذ مدة طويلة، كل الذين يدفنون في ساعات الصباح الأولى استشهدوا يوم أمس فقط، غارات القتل والدمار مساء الليلة الفائتة كانت عديدة لدرجة أن عدد الذين استشهدوا في هذا اليوم وفق تقدير الإذاعات المسموعة بلغ سبع عشرة ضحية جرى انتشالها في ساعات الصباح الأولى، وهناك مفقودون من الأطفال والنساء ما يزالون تحت الركام.
محظوظون هم الذين لهم أهل أو أقارب كي يتولوا دفنهم!
ما أكثر الذين لا يجدون لهم قريبا أو صديقا يكمل مهمة الدفن، هناك عائلات بكاملها قد استشهدت، ولم يبق لهم أحد يشيعهم إلى مثواهم الأخير، بقيت جثثهم في المستشفى، لا تستوعبهم ثلاجة الموتى الصغيرة، لذلك فقد حفر مسؤولو المستشفى مقبرة داخل أسواره ليتمكنوا من أن يواروا كل الذين ليس لهم من يتولى دفنهم.
سمعت وأنا أسير داخل سور المقبرة جدالا بين أحد المشيعين ومسؤول الدفن، لأن المسؤول يرفض إغلاق قبر أبيه الشهيد بالتراب، قال له: "لن أُغلق القبر قبل أن يدفن معه شهيدان، كل ثلاثة شهداء في قبر واحد" لذلك أبقوا القبور مفتوحة، بغطاء شفيف من الزنك القديم المهترئ.
سرتُ باحثا عن وسيلة نقل توصلني إلى مكان نزوحي الثاني، لأن بقية أهلي يسكنون في خيمة بعيدة عن مكان نزوح زوجتي، حاولت أن أجد وسيلة نقل للمكان، لكنني فشلت حتى في إيجاد عربة كارو، اضطررت أن أسير المسافة كلها على قدميَّ وصلت خيمة لجوئي كنتُ منهكا جائعا، لمحت حالة من الوجوم على وجوه أقاربي في الخيمة، قالوا منذ وقت قصير عرفنا بأن عائلة ابنة أختك، هي وزوجها وثلاثة من أبنائها قد استشهدوا ليلة أمس ودمر منزلهم بالكامل، وقد جرى دفنهم سريعا، لقد علمنا بالخبر قبل قليل فقط!
الجنازة الثانية
اعتادتْ أن ترى علامات الإعجاب بفيلتها الجميلة على وجوه زائريها، كانت تتعمد أن تحضر لهم بعض ثمار حديقتها ليتذوقوا حلاوة البلح والعنب والتين، اعتادت أن تشرح لهم كيفية الحصول على أنواع تينٍ منوعة من شجرة واحدة، وكيف أن في كل فرعٍ من فروع شجرة التين نوعا مختلفا، تين أسود، وآخر حماضي، وثالث تركي، ورابع بحري!
قررت مُكرهة أن تواصل رحلة البحث عن عشبة الخلود، ولكنها فجأة أضحت في غمضة عين نازحة في خيمة إيواءٍ في أقصى جنوب غزة، تسكن خيمة ليس فيها أبسط مقومات الحياة، خيمة لا تقيها من البرد، بعد أن كان في بيتها ثلاثة أنواع من التدفئة المكيف الكهربي، ومكيفات الكيروسين، بالإضافة إلى مدفئة الحطب!
قالت ابنتها: غفت على وقع قصف المدافع والطائرات غفوة سريعة لكنها استيقظت على صوت المذيع في هاتفها الخاص، وكان آخر خبر سمعته في الإذاعة: "دمر المحتلون مربع بيتها السكني بأحزمة نارية" لم نعد نسمع حركتها الدائمة، ظننا أنها غفت غفوة طويلة بعد أن عانت في مساء اليوم الفائت من تعب وإرهاق، رفضت أن تشرب منقوع حبات العدس الصفراء، وكسرة من الخبز المغموس في شوربة العدس.
كنت قريبا جدا من مكان جنازتها، كانت المسافة فقط أقل من عشرة كيلومترات، غير أن المسافات في وطني لا تقاس بالمقاييس الجغرافية المعتادة، بل تقاس بعدد الدبابات وعدد القنابل التي تقصف الأبنية والبيوت والسيارات وعدد الشهداء في هذا اليوم،
أكتب تعليقك هتا