أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

أثر استخدام "التفكير الخطي" في ملء فراغات البحث الكمي

وائل كشك - وكالة البيارق الإعلامية كتلٌ ورقيةٌ ضخمة على رفوف المكتبة، علمتُ أنها تُسمى رسمياً بحوثاً تربوية، حاولتُ الاقتراب منها لأتعرَّفها، فوجدتُ الغلافَ هو عنوانُ الحكاية: بعضها يبدأ بـ “أثر”، وبعضها الآخر ينتهي بـ “من وجهة نظر”، ولأن طموحي كان قبول بحثي، فقد غالبتني نزعة الامتثال للقوالب الشكلية والآمنة فكرياً بدلاً من القلق العلمي الذي يُفترض ألاََّ ينفك يعتمل في ذهن الباحث الحقيقي، ولهذا اقتحمتُ لأرى ماذا يفعل الآخرون، فوجدت نفسي تحت غلاف تتوارى في داخله مجموعة أوراق مليئة بالأرقام المرتبكة، تنتظم في مصفوفات أنيقة ... فرضيات صفرية تعيد صياغة العنوان حتى تؤسس للتدخل الإحصائي، إطار نظري يتضمن سرداً لمعظم الدراسات التي تشابه البحث الجديد، وتحاول أن تدلَّ على جوهرية الموضوع وأهميته من جهة، ولتعكس معرفة الباحث الواسعة في ميدان الدراسات المذكورة من جهة أخرى ... فقرة تحت عنوان “حدود البحث” فيها يحدد الباحث كل ما يتعهد بإنجازه، ويدفع كل احتمالات التأويل المتطرف والاستغلال الخاطئ لنتائج بحثه، تقابلها فقرة “تعريف المصطلحات”، وفيها يختار الباحث تعريفاً أو أكثر من التعريفات المتعددة في الساحة التربوية ... استبانة تتميز بالصدق والأمانة وتوفر فتحة طوارئ لخروج الباحث عبرها عند بزوغ الأزمات، وعليها (الاستبانة) يحلف صاحبها يميناً أمام “اللوبي المجتمعي”، مؤكداً نزاهة بحثه وأمانة منهجه وأهمية نتائج دراسته، ... الخ.  معادلات تنتظم أطرافها معلنة حياد أرقامها، ومؤكدة أن كل ما يفتقد إلى الدقة هو رديء وسيء ... تحليل للنتائج الرقمية للبحث، وهو عبارة عن إعادة كتابة بلغة الحروف الأبجدية لما يحتويه هذا الجدول الإحصائي، أو لما أنتجته معادلة مختزلة بغض النظر عن أطرافها الساكنة ... وأخيراً توصيات تسدي النصائح وتعلن عن حكمة صاحبها، وتقترح بكل تواضع أن هذا البحث كان محدداً وليس كافياً، ومع ذلك فتح الباب أمام أبحاث أخرى تجرى في المنطقة العربية أو العالمية (أو الكونية، أو في منطويات الأكوان الموازية).  خرجت من المكتبة وحدود البحث تحاصرني، وغيمة رمادية تظللني، شعرتُ أنني سأحتاج إلى قدر من العزم لكي أتمكن من ضغط متطلبات البحث في فراغات النموذج الجاهز ... وضعتُ رأسي على الوسادة وكنت متعباً، حاولت النوم عبثاً، لم أرَ شيئاً مهماً سوى الفراغ المليء بالعتمة، وتلك الأنفاق المتداخلة التي لا حد لنهاياتها، وذاك اليأس الذي كان يغرق شيئاً فشيئاً في تدرجات البحث الأسود! أصعب شيء هو البدايات، وعليها تترتب كل الحماقات اللاحقة، يقول باشلار أن "البداية تكون صعبة وقاسية لأنها تلزم كثيرا"، وسؤال البداية يعبر عن قلق الحركة الأولى- على رأي رولان بارت- وحركتي الأولى كانت باتجاه ملء الفراغ بمشكلة وخطة. الفراغ الأول-المشكلة والخطة: يجب الاعتراف أنه لم تقض مضجعي أي مشكلة تربوية حقيقية، ولم أتصور يوماً أنني خلقت من أجل حل مشاكل العالم والناس، كما أني لست من هؤلاء الذين يرهقون أنفسهم في البحث عبر المسارات القلقة ليستنتجوا في النهاية أن هناك حقاً في الحقيقة، لذلك لجأت إلى تلك المسارات المطمئنة، فجريت وراء "الأثر" وتهافت على "وجهة النظر"، واخترتُ عنواناً من دائرة العناوين الكلاسيكية ومن خارج المشكلات الحقيقية، يسمح بحشد المتغيرات المستقلة والتابعة، ويسمح أيضاً باستخدام المعادلات الإحصائية الأكثر رواجاً في السوق التربوية ... المهم أن هذا العنوان سيساهم في حل عقدتي اتجاه الموضوعية عندما يمكنني بكل فخر واعتزاز من حساب قيمة الاختبار "التائي"، وهامش الخطأ المعياري. لم أجد مشكلة في كتابة خطة البحث، فهناك نقاط ثابتة لا تتغير من بحث إلى آخر: مشكلة البحث، فرضيات البحث، مصطلحات البحث، حدود البحث، الدراسات السابقة ... وأعترف أن مصطلح "منهجية البحث" لم يكن واضحاً بالنسبة لي، هل منهجية البحث تعني أداة البحث؟ طريقة البحث؟ قواعد البحث؟  بعد الفراغ الأول-مشكلة مزيفة/خطة مراوغة: ربما سأكتشف بعد سنوات، أن بحثي عن "الأثر" لم يكن إلا بحثاً عن جواب مرض للمعادلات الرياضية المستخدمة في السوق الإحصائية، وأن التغير الملاحظ في الموضوع المرشح للتأثر ليس هو الأثر المفترض اكتشافه، بل إنه أحد الأعراض الثانوية لذلك الأثر، أو أنه أحد الآثار التي تركتها عوامل أخرى غير مدروسة أو تفاعل عوامل حسبت أنها مدروسة. كان لزاماً عليَّ اختيار مشكلة حقيقية لكي تتم دراستها بشكل حقيقي للوصول إلى نتائج حقيقية، ولكني اكتشفت أن المشكلة ليست حقيقية والمنهجية مراوغة والنتائج خادعة ...! تيقنت بعد سنوات أن لكل باحث منهجه و"حقيقته"، وهذا المنهج والحقيقة تشكلها تجربة الباحث وقناعاته ومبادئه وأخلاقه وأولوياته، وبالتالي خلصت إلى أن عدد منهجيات البحث التربوي من المفترض أن تساوي عدد الباحثين تقريباً، وعدد هؤلاء يساوي عدد "الحقائق" تماماً.  إذن أن أفكر خلافاً لما يفكر الباحثون ينبئ بمخاطر كثيرة، بالإضافة إلى أنه أمر تعوزه مشروعية لست أهلاً لها ... لذلك، ركضت إلى مطبخ تحضير الوجبات الإحصائية فكان: الفراغ الثاني-الفرضية الصفرية: فرضية صفرية منمقة ومنمطة، فرضية ناذرة نفسها للمعالجات الإحصائية، تستهويني من أول نظرة (وكيف لا وأنا من نتاج هذه الثقافة الثنائية الحدية؟) ... إذن، بعض الشعوذة الرياضية وينتهي الأمر! إما نقبل الفرضية الصفرية، وإما نرفضها، وفي الحالتين ينتهي البحث ونخلص إلى النتائج فالتوصيات.  بعد الفراغ الثاني-الفرضية صنمية: أعتقد الآن أن تطويق البحث بفرضية على الباحث إثباتها، فيه حصر وشل لحركة الباحث في طريق التشخيص والتحليل، وإذا كانت الفرضية المستخدمة في أبحاث العلوم المضبوطة مفيدة- حيث أن طبيعة العلوم تسمح بعزل تأثير بعض المتغيرات أو استبدال متغير بآخر دون التأثير على اتساق العلاقة بين المتغيرات- فإن الأمر ليس كذلك في العلوم التربوية التي تتعامل مع الشخصية الإنسانية المعقدة، حيث أن العلاقة بين المتغيرات في الحقل الإنساني تكون متذبذبة ومتقلبة ومتغيرة، وقد تتلاشى بحسب تدخل عوامل غير معروفة أو غير قابلة للتوحد أو للعزل، ولهذا ربما يكون هناك مكان في الأبحاث التربوية تكون فيه الأضداد صحيحة إلى حد ما ... أيضاً فإن جوهر الفرضية الصفرية يقوم على الظن بأن التغير الحاصل والملاحظ يمكن إرجاعه لعوامل الصدفة، وبالتالي فإن المعادلة الإحصائية التي تستخدم لاختبار صحة الفرضية لا يمكنها أن تنفي أو تثبت إلا ما هو متضمن أصلاً في بنية الفرضية ... إذن، فوظيفة الاختبار الإحصائي هي البرهنة على أن التغير الملاحظ ليس أمراً عابراً، وهو بالتالي يستحق الدراسة ... لا أكثر ولا أقل، وعلى هذا الأساس أعتقد أن البحث الفعلي يبدأ منذ لحظة الانتهاء من تطبيق المعادلات الإحصائية وحساب نتائجها وليس العكس.  مع أني لست من هواة "الاستعراض التربوي"، فإن فرصتي في توريم بحثي تتركز في استعراض ما تيسر من الدراسات والأبحاث السابقة، حتى لو ارتبطت مع بحثي بصلة نسب الجد الخامس ... . الفراغ الثالث/الرابع- الإطار النظري والمبررات: بدأت بممارسة الطقس البحثي وأنا مدرك أن قيمته مرهونة إلى حد ما بحجمه، وتمحور عملي في ثلاثة مجالات: تقديم النظريات الفكرية القريبة من موضوع بحثي، والتوسع أحياناً إلى المذاهب الفكرية والمعرفية التي تأسست عليها هذه النظريات. سرد لمعظم الدراسات التي تشابه البحث الجديد شكلاً أو مضموناً مع التركيز على إبراز أسماء لُمع الباحثين. تلخيص لنتائج وبحوث ذات صلة وإظهار نقاط القوة والضعف فيها. ومن أمام هذا الكم الهائل من الأبحاث والدراسات، ومن خلف هذه المعرفة الواسعة، سوف أعلن عن أهمية هذا البحث وما سيضيفه إلى الفكر التربوي، منوهاً إلى فرادته وتميزه ووعي صاحبه بما يفتقر له الأدب التربوي في العالم العربي من معرفة في هذا المجال. بعد الفراغ الثالث/الرابع- استدسم ذا ورم: لا أخفي مشاعر الزهو والفخر التي كنت أشعر بها في تلك الأيام وأنا أستعرض هذا الكم الهائل من الأبحاث والدراسات، في محاولة خفية مني للتدليل على أهمية البحث المنوي التطرق له ... وقد اكتشفت إلى أي مدى كنت انتقائياً لتلك الأبحاث والدراسات، بل وللمدارس الفكرية لكي تتوافق و"تُقنَّي" لبحثي الموعود ... لا وجود لمؤلفات تمثل وجهات نظر مخالفة، وهذا يطرح أسئلة كبيرة في موضوع الأمانة والذاتية والحياد ... الآن لا أرى حكمة من هذا الاستعراض السلبي للأبحاث والدراسات المشابهة، كما لا أرى تميزاً لهذا البحث ولا أهمية، فهو يشبه ما سبقه شكلاً ومضموناً ونتائج.  لا أستطيع أن أصف تلك المشاعر التي انتابتني عندما سمعت بـ "حدود البحث" أول مرة ... حدود تحولت إلى سلاسل في ذاكرتي في صورتها الحربية، أسلاك شائكة وجدران تمتد إلى نفسي ... عندما سألت عقلي أجابني قلبي فأخذني الخوف إلى أستاذي: الفراغ الخامس-حدود البحث: يُطمئنُني أستاذي ويؤكد لي أن حدود البحث بمثابة قسم البراءة الذي عليّ تأديته، وأعلن فيه عدم مسؤوليتي عن كل ما هو خارج حدود البحث، بالإضافة إلى أنه يقدم فرصة ذهبية لكيْ أذكر الصعوبات التي اعترضتني، والتي ربما تنتقص من مصداقية بحثي ... بعد القسم وبناء على ما فهمت، بدأت بوضع لائحة من المعوقات والصعوبات المتوقعة التي قد تمنعني من التنفيذ الأمين لخطوات البحث ... بعد الانتهاء من البحث، أضفت فقرة لهذا الفراغ أعلن فيها بطريقة مهذبة أني لم أتمكن من تنفيذ جميع إجراءات البحث بسبب الظروف وضغوط الواقع والثقافة والاحتلال ... الخ.  بعد الفراغ الخامس- الحدود مدى لاستهلاك البحث: كم كنت مُخادعاً حينها عندما أصريت على الاستمرار في تنفيذ البحث، وأنا أعلم أن إجراءات التنفيذ اللازمة لمصداقية البحث ستكون ناقصة أو مشوهة؟ كم كنت غبياً عندما لم أميز بين "حدود البحث" من جهة، و"صعوبات البحث" و"محيط دائرة البحث" من جهة أخرى؟ الآن أفهم أنه عند حدود البحث تنتهي إمكانية استخدام نتائج البحث والقضايا التي يمكن أن تغطيها نتائج البحث المتوقعة، وهي المدى التي يجوز لمستهلك البحث أن يستهلك البحث ضمنه.  حتى أتبين الأمر لا بد من استبانة صادقة وثابتة، ولأن الصدق ليس من طبيعة البشر، فعلى البشر أن يكونوا أشياء، وحتى نتأكد من أن هذه الأشياء ثابتة يجب أن نقيسها: الفراغ السادس-التصميم: كان لا بد من تشييء كل ما هو متحرك حتى نستطيع قياسه ونشير إليه برقم، ويصبح بحثنا بالتالي أكثر علمية. تم تصميم الاستبانة بعد التأكد من أن أفراد العينة لديهم فهم متقارب لمعاني بنود الاستبانة بالإضافة إلى امتلاكهم الرصيد الكافي من المعرفة في موضوع البحث، وأنهم سيتعاملون بجدية في تعبئة بنودها! بعد الفراغ السادس- استبانة خادعة: هكذا إذن ... لقد سجنت شخصيات إنسانية في قوالب إجابة الاختيار من متعدد، على الرغم من إعطاء هذه الشخصيات "فورة" تمثلت في خانة "غير ذلك"، أو في سؤال مفتوح في نهاية الاستبانة. اكتشفت بأن المعطى الذي توفره الاستبانة ليس معلومة تحمل قيمة معرفية ذاتية، بل عنصر نكرة يضاف إلى عناصر مشابهة أخرى لا تكتسي أي معنى، بل تتحول إلى وحدة رقمية يضاف إلى المجموع لتصطف أرقام صماء في داخل جداول جدباء ... واكتشفت أيضاً أن كل ما في الاستبيان هو حصيلة لانطباعات لا يمكن الوثوق بها، لأن معظم الناس يتعاملون بحذر مع كل ما هو مكتوب ويلجأون إلى التزيين والمجاملة، فتأتي النتائج إيجابية إن لم تكن مَدْحية. أجلس ناصتاً إلى أستاذي وهو يؤكد ضرورة سلامة المعالجة الإحصائية، ويتحدث عن طرق المعالجات الإحصائية من اختبار "ت"، إلى اختبار "كاي تربيع"، إلى اختبار "تحليل التباين الثنائي" ... لم يكن "لا" انتباهي مجرد نقص في الانتباه، وإنما شعور بأن انتباهي معلق ... كنت أشعر أني غير منتبه، وكلما زاد شعوري بذلك ازددت لاانتباها ... .  الفراغ السابع- التحليل الإحصائي: كل ما كان يهمني أن تتحرك الأشياء وتتكلم الأرقام بدلاً عني، أن أراها ولا تراني حتى لا أكون شاهداً في شيء عنها ... انتظرت بشغف ظهور أعداد حقيقية معززة برقمين بعد الفاصلة، وانتشيت عندما كانت الأعداد معززة بثلاثة أرقام بعد الفاصلة ... انتظمت هذه الأعداد في جداول ومصفوفات، ولجأت إلى أكثر الطرق في المعالجة الإحصائية شهرة ووجاهة، ألا وهو تحليل التباين. بعد الفراغ السابع- أرقام عمياء: إني أرى الآن هذه الجداول والإحصائيات كحزام واقٍ من الصدق ... كانت النتائج أرقاماً حقيقية للزيف، كانت هذه الأرقام بلا صوت، استُعملت كأريكة ننام عليها بدلاً من استعمالها كأداة ... وبسبب كل هذا تحولت عبارات التحليل إلى عكاكيز لتلك الأرقام العمياء. امتلأت كل الفراغات وشهد البحث تقليماً لأطرافه ونتوءاته، وتدويراً لزواياه حتى ينال رضى أصحاب القرار، هؤلاء قالوا لي: إن بحثك جيد وفريد ... عندما قرأته لاحقاً وجدت أن الجزء الفريد منه ليس جيداً، والجزء الجيد منه ليس فريداً! داخل المعنى- خارج الفراغ: قد يكون أكثر ما يثير القلق في هذه اللعبة البحثية أنها مقطوعة الصلة بالواقع وقضاياه الفعلية، إذ يكفي أن يصمم الباحث نموذجاً بحثياً يتوسل الاستبانة والاختبار، ويكتفي بتمارين إحصائية -يسمونها اعتباطاً المعالجة الإحصائية- للنتائج المأخوذة من عينة ما لاستخلاص العلاقات بين المتغيرات ودلالاتها، حتى يتم الاعتراف بجودة البحث، وليصلح بعد ذلك للنشر أو للترقية ... لا أفهم ما معنى هذا اللجوء النمطي إلى متغيرات السن والجنس ومكان السكن لبحث أي موضوع يخطر في البال؟ هل قضايا التربية كالتسرب وصعوبات التعلم تعود إلى هذه المتغيرات؟ ما علاقة مستويات التفكير التي يوظفها طالب الصف الخامس لحل المسائل الهندسية بمكان السكن والجنس مثلاً؟ ربما يكون صلة أو لا يكون، ولكن وفي جميع الحالات، فإن القضايا الإنسانية هي قضايا مركبة تاريخية وديناميكية وذات علاقات متذبذبة ومتغيرة تتكشف وتتلاشى حسب تتداخل عوامل غير معروفة أو غير قابلة للتوحد أو للعزل. لقد فك هذا الوعي النمطي صيرورة البحث وقلقه وحيويته، وحوّل المنهجية إلى قطعة مستقيمة تقيس بالمسطرة أشياء خارج ما يسعى إليه البحث أصلاً، كما ضحى بتكامل الظاهرة الإنسانية من أجل إخضاعها للقياس. (هل يعلم الأخوة "الكمّيون" أن أعمق الظواهر الإنسانية تهرب من القياس؟!).  إن هذا الوعي النمطي والملتزم بتنفيذ قواعد النموذج الجاهز يلامس حدود الاستبداد المعرفي عند أصحاب الحكم والقرار ... إن هذه القواعد الصنمية تتخذ طابع القدسية العلمية التي لا يجوز التساؤل حولها أو مساسها، أما الخروج عنها فهو كفرٌ ويعرِّض صاحبه إلى النبذ من عشيرة الباحثين، هؤلاء يعتقدون بموضوعية المعرفة وحياديتها، ولهذا فقد حولوا الإنسان إلى آلة صماء والعلم إلى دراسة للأشياء ... إن تلك اللغة الموضوعية هي التي كبلتنا، وعلى رأي الروائي الروسي تشيخوف فان "الموضوعية هي التي تمنع الناس أن يحيوا" ... يقول كانط في هذا الصدد: "إننا عندما نضع النظم والقوانين لندرس ظاهرة تربوية، فإننا في الحقيقة لا نفسر هذه الظواهر، بل نفسر علاقاتنا مع هذه الظواهر" ... من هنا يبرز السؤال: هل المعنى معطى أصلي وذو وجود موضوعي مغروس بالأشياء أم أن فعل الوعي هو الذي يفضي عليه المعنى؟ هذا المعنى الذي يبلغ أقصاه عندما نقوّس سهم الفكر ... إن أي انتقاص من الدور الذاتي لتفسير الظاهرة الإنسانية، يقابله انتقاص في انحناء خط الفكر وتسطيح في المعنى أو تبهيت في لون أنغام الحياة!  إن للذاتية منطقها، وكما يقول الفيلسوف بيترفينتش إن "معايير هذا المنطق ليست هبة مباشرة، لكنها تنشأ في سياق طرق لعيش أنماط الحياة الاجتماعية ولا تكون مفهومة إلا فيها". أفكار على الطريق: عندما تحولت الكلمات إلى أرقام توقفت عن العد، وعندما تحولت المشاعر إلى أعداد بدأت بالسير ... مشيت في طريق العودة إلى المكتبة، والعودة إما تكون نهاية انتظار وإما بداية اعتذار ... فاعتذرت إلى نفسي عما فعلت، وبدأت أمشي في سراديب المكتبة ... أكوام من الباحثين الذين يذهبون للإدلاء بأرقامهم شهادة على دقة نتائجهم (هم أساساً أولئك الذين طردتهم الأرقام بطريقة أو بأخرى) ... أكوام من الأضاحي الفكرية قدمت على مذبح امتلاك الحقيقة ... أكوام من الأبحاث والنتائج التي لا تنجز باستمرار ... أكوام من الطاعة تتكدس في حياتنا بقرار!!  وائل كشك – باحث في مركز القطَّان

وائل كشك - وكالة البيارق الإعلامية

كتلٌ ورقيةٌ ضخمة على رفوف المكتبة، علمتُ أنها تُسمى رسمياً بحوثاً تربوية، حاولتُ الاقتراب منها لأتعرَّفها، فوجدتُ الغلافَ هو عنوانُ الحكاية: بعضها يبدأ بـ “أثر”، وبعضها الآخر ينتهي بـ “من وجهة نظر”، ولأن طموحي كان قبول بحثي، فقد غالبتني نزعة الامتثال للقوالب الشكلية والآمنة فكرياً بدلاً من القلق العلمي الذي يُفترض ألاََّ ينفك يعتمل في ذهن الباحث الحقيقي، ولهذا اقتحمتُ لأرى ماذا يفعل الآخرون، فوجدت نفسي تحت غلاف تتوارى في داخله مجموعة أوراق مليئة بالأرقام المرتبكة، تنتظم في مصفوفات أنيقة ... فرضيات صفرية تعيد صياغة العنوان حتى تؤسس للتدخل الإحصائي، إطار نظري يتضمن سرداً لمعظم الدراسات التي تشابه البحث الجديد، وتحاول أن تدلَّ على جوهرية الموضوع وأهميته من جهة، ولتعكس معرفة الباحث الواسعة في ميدان الدراسات المذكورة من جهة أخرى ... فقرة تحت عنوان “حدود البحث” فيها يحدد الباحث كل ما يتعهد بإنجازه، ويدفع كل احتمالات التأويل المتطرف والاستغلال الخاطئ لنتائج بحثه، تقابلها فقرة “تعريف المصطلحات”، وفيها يختار الباحث تعريفاً أو أكثر من التعريفات المتعددة في الساحة التربوية ... استبانة تتميز بالصدق والأمانة وتوفر فتحة طوارئ لخروج الباحث عبرها عند بزوغ الأزمات، وعليها (الاستبانة) يحلف صاحبها يميناً أمام “اللوبي المجتمعي”، مؤكداً نزاهة بحثه وأمانة منهجه وأهمية نتائج دراسته، ... الخ.

معادلات تنتظم أطرافها معلنة حياد أرقامها، ومؤكدة أن كل ما يفتقد إلى الدقة هو رديء وسيء ... تحليل للنتائج الرقمية للبحث، وهو عبارة عن إعادة كتابة بلغة الحروف الأبجدية لما يحتويه هذا الجدول الإحصائي، أو لما أنتجته معادلة مختزلة بغض النظر عن أطرافها الساكنة ... وأخيراً توصيات تسدي النصائح وتعلن عن حكمة صاحبها، وتقترح بكل تواضع أن هذا البحث كان محدداً وليس كافياً، ومع ذلك فتح الباب أمام أبحاث أخرى تجرى في المنطقة العربية أو العالمية (أو الكونية، أو في منطويات الأكوان الموازية).

خرجت من المكتبة وحدود البحث تحاصرني، وغيمة رمادية تظللني، شعرتُ أنني سأحتاج إلى قدر من العزم لكي أتمكن من ضغط متطلبات البحث في فراغات النموذج الجاهز ... وضعتُ رأسي على الوسادة وكنت متعباً، حاولت النوم عبثاً، لم أرَ شيئاً مهماً سوى الفراغ المليء بالعتمة، وتلك الأنفاق المتداخلة التي لا حد لنهاياتها، وذاك اليأس الذي كان يغرق شيئاً فشيئاً في تدرجات البحث الأسود!
أصعب شيء هو البدايات، وعليها تترتب كل الحماقات اللاحقة، يقول باشلار أن "البداية تكون صعبة وقاسية لأنها تلزم كثيرا"، وسؤال البداية يعبر عن قلق الحركة الأولى- على رأي رولان بارت- وحركتي الأولى كانت باتجاه ملء الفراغ بمشكلة وخطة.

الفراغ الأول-المشكلة والخطة:

يجب الاعتراف أنه لم تقض مضجعي أي مشكلة تربوية حقيقية، ولم أتصور يوماً أنني خلقت من أجل حل مشاكل العالم والناس، كما أني لست من هؤلاء الذين يرهقون أنفسهم في البحث عبر المسارات القلقة ليستنتجوا في النهاية أن هناك حقاً في الحقيقة، لذلك لجأت إلى تلك المسارات المطمئنة، فجريت وراء "الأثر" وتهافت على "وجهة النظر"، واخترتُ عنواناً من دائرة العناوين الكلاسيكية ومن خارج المشكلات الحقيقية، يسمح بحشد المتغيرات المستقلة والتابعة، ويسمح أيضاً باستخدام المعادلات الإحصائية الأكثر رواجاً في السوق التربوية ... المهم أن هذا العنوان سيساهم في حل عقدتي اتجاه الموضوعية عندما يمكنني بكل فخر واعتزاز من حساب قيمة الاختبار "التائي"، وهامش الخطأ المعياري.

لم أجد مشكلة في كتابة خطة البحث، فهناك نقاط ثابتة لا تتغير من بحث إلى آخر: مشكلة البحث، فرضيات البحث، مصطلحات البحث، حدود البحث، الدراسات السابقة ... وأعترف أن مصطلح "منهجية البحث" لم يكن واضحاً بالنسبة لي، هل منهجية البحث تعني أداة البحث؟ طريقة البحث؟ قواعد البحث؟

بعد الفراغ الأول-مشكلة مزيفة/خطة مراوغة:

ربما سأكتشف بعد سنوات، أن بحثي عن "الأثر" لم يكن إلا بحثاً عن جواب مرض للمعادلات الرياضية المستخدمة في السوق الإحصائية، وأن التغير الملاحظ في الموضوع المرشح للتأثر ليس هو الأثر المفترض اكتشافه، بل إنه أحد الأعراض الثانوية لذلك الأثر، أو أنه أحد الآثار التي تركتها عوامل أخرى غير مدروسة أو تفاعل عوامل حسبت أنها مدروسة.

كان لزاماً عليَّ اختيار مشكلة حقيقية لكي تتم دراستها بشكل حقيقي للوصول إلى نتائج حقيقية، ولكني اكتشفت أن المشكلة ليست حقيقية والمنهجية مراوغة والنتائج خادعة ...! تيقنت بعد سنوات أن لكل باحث منهجه و"حقيقته"، وهذا المنهج والحقيقة تشكلها تجربة الباحث وقناعاته ومبادئه وأخلاقه وأولوياته، وبالتالي خلصت إلى أن عدد منهجيات البحث التربوي من المفترض أن تساوي عدد الباحثين تقريباً، وعدد هؤلاء يساوي عدد "الحقائق" تماماً.

إذن أن أفكر خلافاً لما يفكر الباحثون ينبئ بمخاطر كثيرة، بالإضافة إلى أنه أمر تعوزه مشروعية لست أهلاً لها ... لذلك، ركضت إلى مطبخ تحضير الوجبات الإحصائية فكان:
الفراغ الثاني-الفرضية الصفرية:

فرضية صفرية منمقة ومنمطة، فرضية ناذرة نفسها للمعالجات الإحصائية، تستهويني من أول نظرة (وكيف لا وأنا من نتاج هذه الثقافة الثنائية الحدية؟) ... إذن، بعض الشعوذة الرياضية وينتهي الأمر! إما نقبل الفرضية الصفرية، وإما نرفضها، وفي الحالتين ينتهي البحث ونخلص إلى النتائج فالتوصيات.

بعد الفراغ الثاني-الفرضية صنمية:

أعتقد الآن أن تطويق البحث بفرضية على الباحث إثباتها، فيه حصر وشل لحركة الباحث في طريق التشخيص والتحليل، وإذا كانت الفرضية المستخدمة في أبحاث العلوم المضبوطة مفيدة- حيث أن طبيعة العلوم تسمح بعزل تأثير بعض المتغيرات أو استبدال متغير بآخر دون التأثير على اتساق العلاقة بين المتغيرات- فإن الأمر ليس كذلك في العلوم التربوية التي تتعامل مع الشخصية الإنسانية المعقدة، حيث أن العلاقة بين المتغيرات في الحقل الإنساني تكون متذبذبة ومتقلبة ومتغيرة، وقد تتلاشى بحسب تدخل عوامل غير معروفة أو غير قابلة للتوحد أو للعزل، ولهذا ربما يكون هناك مكان في الأبحاث التربوية تكون فيه الأضداد صحيحة إلى حد ما ... أيضاً فإن جوهر الفرضية الصفرية يقوم على الظن بأن التغير الحاصل والملاحظ يمكن إرجاعه لعوامل الصدفة، وبالتالي فإن المعادلة الإحصائية التي تستخدم لاختبار صحة الفرضية لا يمكنها أن تنفي أو تثبت إلا ما هو متضمن أصلاً في بنية الفرضية ... إذن، فوظيفة الاختبار الإحصائي هي البرهنة على أن التغير الملاحظ ليس أمراً عابراً، وهو بالتالي يستحق الدراسة ... لا أكثر ولا أقل، وعلى هذا الأساس أعتقد أن البحث الفعلي يبدأ منذ لحظة الانتهاء من تطبيق المعادلات الإحصائية وحساب نتائجها وليس العكس.

مع أني لست من هواة "الاستعراض التربوي"، فإن فرصتي في توريم بحثي تتركز في استعراض ما تيسر من الدراسات والأبحاث السابقة، حتى لو ارتبطت مع بحثي بصلة نسب الجد الخامس ... .

الفراغ الثالث/الرابع- الإطار النظري والمبررات:

بدأت بممارسة الطقس البحثي وأنا مدرك أن قيمته مرهونة إلى حد ما بحجمه، وتمحور عملي في ثلاثة مجالات:
تقديم النظريات الفكرية القريبة من موضوع بحثي، والتوسع أحياناً إلى المذاهب الفكرية والمعرفية التي تأسست عليها هذه النظريات.
سرد لمعظم الدراسات التي تشابه البحث الجديد شكلاً أو مضموناً مع التركيز على إبراز أسماء لُمع الباحثين.

تلخيص لنتائج وبحوث ذات صلة وإظهار نقاط القوة والضعف فيها.

ومن أمام هذا الكم الهائل من الأبحاث والدراسات، ومن خلف هذه المعرفة الواسعة، سوف أعلن عن أهمية هذا البحث وما سيضيفه إلى الفكر التربوي، منوهاً إلى فرادته وتميزه ووعي صاحبه بما يفتقر له الأدب التربوي في العالم العربي من معرفة في هذا المجال.
بعد الفراغ الثالث/الرابع- استدسم ذا ورم:

لا أخفي مشاعر الزهو والفخر التي كنت أشعر بها في تلك الأيام وأنا أستعرض هذا الكم الهائل من الأبحاث والدراسات، في محاولة خفية مني للتدليل على أهمية البحث المنوي التطرق له ... وقد اكتشفت إلى أي مدى كنت انتقائياً لتلك الأبحاث والدراسات، بل وللمدارس الفكرية لكي تتوافق و"تُقنَّي" لبحثي الموعود ... لا وجود لمؤلفات تمثل وجهات نظر مخالفة، وهذا يطرح أسئلة كبيرة في موضوع الأمانة والذاتية والحياد ... الآن لا أرى حكمة من هذا الاستعراض السلبي للأبحاث والدراسات المشابهة، كما لا أرى تميزاً لهذا البحث ولا أهمية، فهو يشبه ما سبقه شكلاً ومضموناً ونتائج.

لا أستطيع أن أصف تلك المشاعر التي انتابتني عندما سمعت بـ "حدود البحث" أول مرة ... حدود تحولت إلى سلاسل في ذاكرتي في صورتها الحربية، أسلاك شائكة وجدران تمتد إلى نفسي ... عندما سألت عقلي أجابني قلبي فأخذني الخوف إلى أستاذي:
الفراغ الخامس-حدود البحث:

يُطمئنُني أستاذي ويؤكد لي أن حدود البحث بمثابة قسم البراءة الذي عليّ تأديته، وأعلن فيه عدم مسؤوليتي عن كل ما هو خارج حدود البحث، بالإضافة إلى أنه يقدم فرصة ذهبية لكيْ أذكر الصعوبات التي اعترضتني، والتي ربما تنتقص من مصداقية بحثي ... بعد القسم وبناء على ما فهمت، بدأت بوضع لائحة من المعوقات والصعوبات المتوقعة التي قد تمنعني من التنفيذ الأمين لخطوات البحث ... بعد الانتهاء من البحث، أضفت فقرة لهذا الفراغ أعلن فيها بطريقة مهذبة أني لم أتمكن من تنفيذ جميع إجراءات البحث بسبب الظروف وضغوط الواقع والثقافة والاحتلال ... الخ.

بعد الفراغ الخامس- الحدود مدى لاستهلاك البحث:

كم كنت مُخادعاً حينها عندما أصريت على الاستمرار في تنفيذ البحث، وأنا أعلم أن إجراءات التنفيذ اللازمة لمصداقية البحث ستكون ناقصة أو مشوهة؟ كم كنت غبياً عندما لم أميز بين "حدود البحث" من جهة، و"صعوبات البحث" و"محيط دائرة البحث" من جهة أخرى؟

الآن أفهم أنه عند حدود البحث تنتهي إمكانية استخدام نتائج البحث والقضايا التي يمكن أن تغطيها نتائج البحث المتوقعة، وهي المدى التي يجوز لمستهلك البحث أن يستهلك البحث ضمنه.

حتى أتبين الأمر لا بد من استبانة صادقة وثابتة، ولأن الصدق ليس من طبيعة البشر، فعلى البشر أن يكونوا أشياء، وحتى نتأكد من أن هذه الأشياء ثابتة يجب أن نقيسها:

الفراغ السادس-التصميم:

كان لا بد من تشييء كل ما هو متحرك حتى نستطيع قياسه ونشير إليه برقم، ويصبح بحثنا بالتالي أكثر علمية.
تم تصميم الاستبانة بعد التأكد من أن أفراد العينة لديهم فهم متقارب لمعاني بنود الاستبانة بالإضافة إلى امتلاكهم الرصيد الكافي من المعرفة في موضوع البحث، وأنهم سيتعاملون بجدية في تعبئة بنودها!

بعد الفراغ السادس- استبانة خادعة:

هكذا إذن ... لقد سجنت شخصيات إنسانية في قوالب إجابة الاختيار من متعدد، على الرغم من إعطاء هذه الشخصيات "فورة" تمثلت في خانة "غير ذلك"، أو في سؤال مفتوح في نهاية الاستبانة. اكتشفت بأن المعطى الذي توفره الاستبانة ليس معلومة تحمل قيمة معرفية ذاتية، بل عنصر نكرة يضاف إلى عناصر مشابهة أخرى لا تكتسي أي معنى، بل تتحول إلى وحدة رقمية يضاف إلى المجموع لتصطف أرقام صماء في داخل جداول جدباء ... واكتشفت أيضاً أن كل ما في الاستبيان هو حصيلة لانطباعات لا يمكن الوثوق بها، لأن معظم الناس يتعاملون بحذر مع كل ما هو مكتوب ويلجأون إلى التزيين والمجاملة، فتأتي النتائج إيجابية إن لم تكن مَدْحية.

أجلس ناصتاً إلى أستاذي وهو يؤكد ضرورة سلامة المعالجة الإحصائية، ويتحدث عن طرق المعالجات الإحصائية من اختبار "ت"، إلى اختبار "كاي تربيع"، إلى اختبار "تحليل التباين الثنائي" ... لم يكن "لا" انتباهي مجرد نقص في الانتباه، وإنما شعور بأن انتباهي معلق ... كنت أشعر أني غير منتبه، وكلما زاد شعوري بذلك ازددت لاانتباها ... .

الفراغ السابع- التحليل الإحصائي:

كل ما كان يهمني أن تتحرك الأشياء وتتكلم الأرقام بدلاً عني، أن أراها ولا تراني حتى لا أكون شاهداً في شيء عنها ... انتظرت بشغف ظهور أعداد حقيقية معززة برقمين بعد الفاصلة، وانتشيت عندما كانت الأعداد معززة بثلاثة أرقام بعد الفاصلة ... انتظمت هذه الأعداد في جداول ومصفوفات، ولجأت إلى أكثر الطرق في المعالجة الإحصائية شهرة ووجاهة، ألا وهو تحليل التباين.

بعد الفراغ السابع- أرقام عمياء:

إني أرى الآن هذه الجداول والإحصائيات كحزام واقٍ من الصدق ... كانت النتائج أرقاماً حقيقية للزيف، كانت هذه الأرقام بلا صوت، استُعملت كأريكة ننام عليها بدلاً من استعمالها كأداة ... وبسبب كل هذا تحولت عبارات التحليل إلى عكاكيز لتلك الأرقام العمياء.
امتلأت كل الفراغات وشهد البحث تقليماً لأطرافه ونتوءاته، وتدويراً لزواياه حتى ينال رضى أصحاب القرار، هؤلاء قالوا لي: إن بحثك جيد وفريد ... عندما قرأته لاحقاً وجدت أن الجزء الفريد منه ليس جيداً، والجزء الجيد منه ليس فريداً!

داخل المعنى- خارج الفراغ:

قد يكون أكثر ما يثير القلق في هذه اللعبة البحثية أنها مقطوعة الصلة بالواقع وقضاياه الفعلية، إذ يكفي أن يصمم الباحث نموذجاً بحثياً يتوسل الاستبانة والاختبار، ويكتفي بتمارين إحصائية -يسمونها اعتباطاً المعالجة الإحصائية- للنتائج المأخوذة من عينة ما لاستخلاص العلاقات بين المتغيرات ودلالاتها، حتى يتم الاعتراف بجودة البحث، وليصلح بعد ذلك للنشر أو للترقية ... لا أفهم ما معنى هذا اللجوء النمطي إلى متغيرات السن والجنس ومكان السكن لبحث أي موضوع يخطر في البال؟ هل قضايا التربية كالتسرب وصعوبات التعلم تعود إلى هذه المتغيرات؟ ما علاقة مستويات التفكير التي يوظفها طالب الصف الخامس لحل المسائل الهندسية بمكان السكن والجنس مثلاً؟ ربما يكون صلة أو لا يكون، ولكن وفي جميع الحالات، فإن القضايا الإنسانية هي قضايا مركبة تاريخية وديناميكية وذات علاقات متذبذبة ومتغيرة تتكشف وتتلاشى حسب تتداخل عوامل غير معروفة أو غير قابلة للتوحد أو للعزل.

لقد فك هذا الوعي النمطي صيرورة البحث وقلقه وحيويته، وحوّل المنهجية إلى قطعة مستقيمة تقيس بالمسطرة أشياء خارج ما يسعى إليه البحث أصلاً، كما ضحى بتكامل الظاهرة الإنسانية من أجل إخضاعها للقياس. (هل يعلم الأخوة "الكمّيون" أن أعمق الظواهر الإنسانية تهرب من القياس؟!).

إن هذا الوعي النمطي والملتزم بتنفيذ قواعد النموذج الجاهز يلامس حدود الاستبداد المعرفي عند أصحاب الحكم والقرار ... إن هذه القواعد الصنمية تتخذ طابع القدسية العلمية التي لا يجوز التساؤل حولها أو مساسها، أما الخروج عنها فهو كفرٌ ويعرِّض صاحبه إلى النبذ من عشيرة الباحثين، هؤلاء يعتقدون بموضوعية المعرفة وحياديتها، ولهذا فقد حولوا الإنسان إلى آلة صماء والعلم إلى دراسة للأشياء ... إن تلك اللغة الموضوعية هي التي كبلتنا، وعلى رأي الروائي الروسي تشيخوف فان "الموضوعية هي التي تمنع الناس أن يحيوا" ... يقول كانط في هذا الصدد: "إننا عندما نضع النظم والقوانين لندرس ظاهرة تربوية، فإننا في الحقيقة لا نفسر هذه الظواهر، بل نفسر علاقاتنا مع هذه الظواهر" ... من هنا يبرز السؤال: هل المعنى معطى أصلي وذو وجود موضوعي مغروس بالأشياء أم أن فعل الوعي هو الذي يفضي عليه المعنى؟ هذا المعنى الذي يبلغ أقصاه عندما نقوّس سهم الفكر ... إن أي انتقاص من الدور الذاتي لتفسير الظاهرة الإنسانية، يقابله انتقاص في انحناء خط الفكر وتسطيح في المعنى أو تبهيت في لون أنغام الحياة!

إن للذاتية منطقها، وكما يقول الفيلسوف بيترفينتش إن "معايير هذا المنطق ليست هبة مباشرة، لكنها تنشأ في سياق طرق لعيش أنماط الحياة الاجتماعية ولا تكون مفهومة إلا فيها".

أفكار على الطريق:

عندما تحولت الكلمات إلى أرقام توقفت عن العد، وعندما تحولت المشاعر إلى أعداد بدأت بالسير ... مشيت في طريق العودة إلى المكتبة، والعودة إما تكون نهاية انتظار وإما بداية اعتذار ... فاعتذرت إلى نفسي عما فعلت، وبدأت أمشي في سراديب المكتبة ... أكوام من الباحثين الذين يذهبون للإدلاء بأرقامهم شهادة على دقة نتائجهم (هم أساساً أولئك الذين طردتهم الأرقام بطريقة أو بأخرى) ... أكوام من الأضاحي الفكرية قدمت على مذبح امتلاك الحقيقة ... أكوام من الأبحاث والنتائج التي لا تنجز باستمرار ... أكوام من الطاعة تتكدس في حياتنا بقرار!!

وائل كشك – باحث في مركز القطَّان

تعليقات