وائل كشك - وكالة البيارق الإعلامية
كتلٌ ورقيةٌ ضخمة على رفوف المكتبة، علمتُ أنها تُسمى رسمياً بحوثاً تربوية، حاولتُ الاقتراب منها لأتعرَّفها، فوجدتُ الغلافَ هو عنوانُ الحكاية: بعضها يبدأ بـ “أثر”، وبعضها الآخر ينتهي بـ “من وجهة نظر”، ولأن طموحي كان قبول بحثي، فقد غالبتني نزعة الامتثال للقوالب الشكلية والآمنة فكرياً بدلاً من القلق العلمي الذي يُفترض ألاََّ ينفك يعتمل في ذهن الباحث الحقيقي، ولهذا اقتحمتُ لأرى ماذا يفعل الآخرون، فوجدت نفسي تحت غلاف تتوارى في داخله مجموعة أوراق مليئة بالأرقام المرتبكة، تنتظم في مصفوفات أنيقة ... فرضيات صفرية تعيد صياغة العنوان حتى تؤسس للتدخل الإحصائي، إطار نظري يتضمن سرداً لمعظم الدراسات التي تشابه البحث الجديد، وتحاول أن تدلَّ على جوهرية الموضوع وأهميته من جهة، ولتعكس معرفة الباحث الواسعة في ميدان الدراسات المذكورة من جهة أخرى ... فقرة تحت عنوان “حدود البحث” فيها يحدد الباحث كل ما يتعهد بإنجازه، ويدفع كل احتمالات التأويل المتطرف والاستغلال الخاطئ لنتائج بحثه، تقابلها فقرة “تعريف المصطلحات”، وفيها يختار الباحث تعريفاً أو أكثر من التعريفات المتعددة في الساحة التربوية ... استبانة تتميز بالصدق والأمانة وتوفر فتحة طوارئ لخروج الباحث عبرها عند بزوغ الأزمات، وعليها (الاستبانة) يحلف صاحبها يميناً أمام “اللوبي المجتمعي”، مؤكداً نزاهة بحثه وأمانة منهجه وأهمية نتائج دراسته، ... الخ.
معادلات تنتظم أطرافها معلنة حياد أرقامها، ومؤكدة أن كل ما يفتقد إلى الدقة هو رديء وسيء ... تحليل للنتائج الرقمية للبحث، وهو عبارة عن إعادة كتابة بلغة الحروف الأبجدية لما يحتويه هذا الجدول الإحصائي، أو لما أنتجته معادلة مختزلة بغض النظر عن أطرافها الساكنة ... وأخيراً توصيات تسدي النصائح وتعلن عن حكمة صاحبها، وتقترح بكل تواضع أن هذا البحث كان محدداً وليس كافياً، ومع ذلك فتح الباب أمام أبحاث أخرى تجرى في المنطقة العربية أو العالمية (أو الكونية، أو في منطويات الأكوان الموازية).
الفراغ الأول-المشكلة والخطة:
لم أجد مشكلة في كتابة خطة البحث، فهناك نقاط ثابتة لا تتغير من بحث إلى آخر: مشكلة البحث، فرضيات البحث، مصطلحات البحث، حدود البحث، الدراسات السابقة ... وأعترف أن مصطلح "منهجية البحث" لم يكن واضحاً بالنسبة لي، هل منهجية البحث تعني أداة البحث؟ طريقة البحث؟ قواعد البحث؟
بعد الفراغ الأول-مشكلة مزيفة/خطة مراوغة:
كان لزاماً عليَّ اختيار مشكلة حقيقية لكي تتم دراستها بشكل حقيقي للوصول إلى نتائج حقيقية، ولكني اكتشفت أن المشكلة ليست حقيقية والمنهجية مراوغة والنتائج خادعة ...! تيقنت بعد سنوات أن لكل باحث منهجه و"حقيقته"، وهذا المنهج والحقيقة تشكلها تجربة الباحث وقناعاته ومبادئه وأخلاقه وأولوياته، وبالتالي خلصت إلى أن عدد منهجيات البحث التربوي من المفترض أن تساوي عدد الباحثين تقريباً، وعدد هؤلاء يساوي عدد "الحقائق" تماماً.
فرضية صفرية منمقة ومنمطة، فرضية ناذرة نفسها للمعالجات الإحصائية، تستهويني من أول نظرة (وكيف لا وأنا من نتاج هذه الثقافة الثنائية الحدية؟) ... إذن، بعض الشعوذة الرياضية وينتهي الأمر! إما نقبل الفرضية الصفرية، وإما نرفضها، وفي الحالتين ينتهي البحث ونخلص إلى النتائج فالتوصيات.
بعد الفراغ الثاني-الفرضية صنمية:
أعتقد الآن أن تطويق البحث بفرضية على الباحث إثباتها، فيه حصر وشل لحركة الباحث في طريق التشخيص والتحليل، وإذا كانت الفرضية المستخدمة في أبحاث العلوم المضبوطة مفيدة- حيث أن طبيعة العلوم تسمح بعزل تأثير بعض المتغيرات أو استبدال متغير بآخر دون التأثير على اتساق العلاقة بين المتغيرات- فإن الأمر ليس كذلك في العلوم التربوية التي تتعامل مع الشخصية الإنسانية المعقدة، حيث أن العلاقة بين المتغيرات في الحقل الإنساني تكون متذبذبة ومتقلبة ومتغيرة، وقد تتلاشى بحسب تدخل عوامل غير معروفة أو غير قابلة للتوحد أو للعزل، ولهذا ربما يكون هناك مكان في الأبحاث التربوية تكون فيه الأضداد صحيحة إلى حد ما ... أيضاً فإن جوهر الفرضية الصفرية يقوم على الظن بأن التغير الحاصل والملاحظ يمكن إرجاعه لعوامل الصدفة، وبالتالي فإن المعادلة الإحصائية التي تستخدم لاختبار صحة الفرضية لا يمكنها أن تنفي أو تثبت إلا ما هو متضمن أصلاً في بنية الفرضية ... إذن، فوظيفة الاختبار الإحصائي هي البرهنة على أن التغير الملاحظ ليس أمراً عابراً، وهو بالتالي يستحق الدراسة ... لا أكثر ولا أقل، وعلى هذا الأساس أعتقد أن البحث الفعلي يبدأ منذ لحظة الانتهاء من تطبيق المعادلات الإحصائية وحساب نتائجها وليس العكس.
الفراغ الثالث/الرابع- الإطار النظري والمبررات:
تلخيص لنتائج وبحوث ذات صلة وإظهار نقاط القوة والضعف فيها.
لا أخفي مشاعر الزهو والفخر التي كنت أشعر بها في تلك الأيام وأنا أستعرض هذا الكم الهائل من الأبحاث والدراسات، في محاولة خفية مني للتدليل على أهمية البحث المنوي التطرق له ... وقد اكتشفت إلى أي مدى كنت انتقائياً لتلك الأبحاث والدراسات، بل وللمدارس الفكرية لكي تتوافق و"تُقنَّي" لبحثي الموعود ... لا وجود لمؤلفات تمثل وجهات نظر مخالفة، وهذا يطرح أسئلة كبيرة في موضوع الأمانة والذاتية والحياد ... الآن لا أرى حكمة من هذا الاستعراض السلبي للأبحاث والدراسات المشابهة، كما لا أرى تميزاً لهذا البحث ولا أهمية، فهو يشبه ما سبقه شكلاً ومضموناً ونتائج.
يُطمئنُني أستاذي ويؤكد لي أن حدود البحث بمثابة قسم البراءة الذي عليّ تأديته، وأعلن فيه عدم مسؤوليتي عن كل ما هو خارج حدود البحث، بالإضافة إلى أنه يقدم فرصة ذهبية لكيْ أذكر الصعوبات التي اعترضتني، والتي ربما تنتقص من مصداقية بحثي ... بعد القسم وبناء على ما فهمت، بدأت بوضع لائحة من المعوقات والصعوبات المتوقعة التي قد تمنعني من التنفيذ الأمين لخطوات البحث ... بعد الانتهاء من البحث، أضفت فقرة لهذا الفراغ أعلن فيها بطريقة مهذبة أني لم أتمكن من تنفيذ جميع إجراءات البحث بسبب الظروف وضغوط الواقع والثقافة والاحتلال ... الخ.
بعد الفراغ الخامس- الحدود مدى لاستهلاك البحث:
الآن أفهم أنه عند حدود البحث تنتهي إمكانية استخدام نتائج البحث والقضايا التي يمكن أن تغطيها نتائج البحث المتوقعة، وهي المدى التي يجوز لمستهلك البحث أن يستهلك البحث ضمنه.
الفراغ السادس-التصميم:
بعد الفراغ السادس- استبانة خادعة:
أجلس ناصتاً إلى أستاذي وهو يؤكد ضرورة سلامة المعالجة الإحصائية، ويتحدث عن طرق المعالجات الإحصائية من اختبار "ت"، إلى اختبار "كاي تربيع"، إلى اختبار "تحليل التباين الثنائي" ... لم يكن "لا" انتباهي مجرد نقص في الانتباه، وإنما شعور بأن انتباهي معلق ... كنت أشعر أني غير منتبه، وكلما زاد شعوري بذلك ازددت لاانتباها ... .
الفراغ السابع- التحليل الإحصائي:
بعد الفراغ السابع- أرقام عمياء:
داخل المعنى- خارج الفراغ:
لقد فك هذا الوعي النمطي صيرورة البحث وقلقه وحيويته، وحوّل المنهجية إلى قطعة مستقيمة تقيس بالمسطرة أشياء خارج ما يسعى إليه البحث أصلاً، كما ضحى بتكامل الظاهرة الإنسانية من أجل إخضاعها للقياس. (هل يعلم الأخوة "الكمّيون" أن أعمق الظواهر الإنسانية تهرب من القياس؟!).
إن هذا الوعي النمطي والملتزم بتنفيذ قواعد النموذج الجاهز يلامس حدود الاستبداد المعرفي عند أصحاب الحكم والقرار ... إن هذه القواعد الصنمية تتخذ طابع القدسية العلمية التي لا يجوز التساؤل حولها أو مساسها، أما الخروج عنها فهو كفرٌ ويعرِّض صاحبه إلى النبذ من عشيرة الباحثين، هؤلاء يعتقدون بموضوعية المعرفة وحياديتها، ولهذا فقد حولوا الإنسان إلى آلة صماء والعلم إلى دراسة للأشياء ... إن تلك اللغة الموضوعية هي التي كبلتنا، وعلى رأي الروائي الروسي تشيخوف فان "الموضوعية هي التي تمنع الناس أن يحيوا" ... يقول كانط في هذا الصدد: "إننا عندما نضع النظم والقوانين لندرس ظاهرة تربوية، فإننا في الحقيقة لا نفسر هذه الظواهر، بل نفسر علاقاتنا مع هذه الظواهر" ... من هنا يبرز السؤال: هل المعنى معطى أصلي وذو وجود موضوعي مغروس بالأشياء أم أن فعل الوعي هو الذي يفضي عليه المعنى؟ هذا المعنى الذي يبلغ أقصاه عندما نقوّس سهم الفكر ... إن أي انتقاص من الدور الذاتي لتفسير الظاهرة الإنسانية، يقابله انتقاص في انحناء خط الفكر وتسطيح في المعنى أو تبهيت في لون أنغام الحياة!
أكتب تعليقك هتا