منى خشن, سامي عطا الله - وكالة البيارق الإعلامية
خلال اجتماع مجموعة تواصل مراكز الفكر «T20»، الذي عُقِد في ريو دي جانيرو في الأسبوع الأوّل من تشرين الأوّل الجاري، عمد ممثّلو منظّمة «Asuntos del Sur» الأرجنتينية، ومعهد «E+ Energy Transition Institution»، ومركز أبحاث التنمية الدولية الكندي (IDRC)، إلى تنظيم فعالية جانبية تحت مُسمّى «منظورات عالمية حول (غياب) عنصر حقوق الإنسان عن التحوّل المناخي العادل». وتسعى مجموعة تواصل مراكز الفكر، التي تضمّ مُؤسَّسات فكرية ومراكز بحثية من الدول الأعضاء والدول الضيوف، وتشكّل إحدى مجموعات التواصل لدول مجموعة العشرين، إلى توطيد أواصر التعاون، للتوصُّل إلى حلول ترتكز على الأدلّة، وإلى التوصية بسياسات تسهم في تجاوز التحدّيات الحالية والمستقبلية، لا سيّما تلك المتعلّقة بالاستقرار المالي والاقتصادي الدوليَّين، والتغيُّر المناخي، والتنمية المستدامة.
لم يتمكّن فريق مبادرة سياسات الغدمن المشاركة في الفعالية الجانبية المذكورة، سواء حضوريًّا أو افتراضيًّا، وذلك بسبب تصعيد العدوان الإسرائيلي على لبنان. وقد بدأ العدوان في الثامن من تشرين الأوّل العام الماضي، عندما أطلق حزب الله — وهو حزب سياسي لبناني مسلم شيعي، وحركة مُقاومة مسلّحة تأسَّست على إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 — ثلاثة صواريخ على مزارع شبعا المُحتلَّة، إسنادًا للقضيَّة الفلسطينية في الحرب القائمة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأوّل 2023. وما زال العدوان الإسرائيلي على لبنان يشهد تصعيدًا مستمرًّا، حاله حال قطاع غزّة، في ردّ انتقامِيّ مفرط على إبقاء حزب الله جبهةَ الإسناد مفتوحة دعمًا للشعب الفلسطيني. وقد أعلنت وزارة الصحَّة اللبنانية، في الرابع عشر من تشرين الأوّل الجاري، أنّ حصيلة العدوان على لبنان قد بلغت 2,309 شهداء و10,782 جريحًا منذ بدئه1. بالإضافة إلى ذلك، تقدِّر السلطات اللبنانية أنّ عدد النازحين جرّاء العدوان قد بلغ قرابة المليون ومئتَي ألف2، وأنّ عشرات الآلاف من الأُسَر اللبنانية قد باتت محرومة من الخدمات الأساسية، وأنّ أكثر من 52 ألف مبنى سكني وغير سكني قد دُمِّر3. وقد سجّلت الأسابيع الثلاثة الماضية الحصيلة الأعلى من الشهداء، وشهدت أكبر حركة نزوحٍ منذ بدء العدوان، حيث اضطرَّ أكثر من مليون لبناني، تحت وطأة الغارات الجوِّيّة، إلى الانتقال إلى مناطق أخرى أكثر أمانًا، وسط مخاوف متزايدة من الاجتياح البرِّي4. أمّا في غزّة، فقد بلغت حصيلة غارات الاحتلال وعمليّاته البرِّية 42,227 شهيدًا وأكثر من 98,464 جريحًا منذ السابع من تشرين الأوّل الماضي، غالبيّتهم من النساء والأطفال5. هذا وقد أُجبِر نحو مليون وتسعمائة ألف فلسطيني — أي ما يعادل 90 بالمائة من سكّان القطاع — على النزوح قسرًا6.
ولكن، ما علاقة العدوان على غزّة ولبنان بالجهود العالمية التي تُبذَل في سبيل مكافحة التغيُّر المناخي؟ وما علاقته بهدف تحقيق التحوُّل المناخي العادل؟ وكيف يؤثّر في قمّة مجموعة العشرين التي ستُعقد في ريو دي جانيرو في الثامن عشر والتاسع عشر من تشرين الثاني المقبل؟ يسلّط مقالنا هذا الضوء على أربع نقاط رئيسة لا بدّ من النظر فيها عند التباحث في غياب حقوق الإنسان عن العدالة المناخية، وفي التوصيات التي يخلص إليها اجتماع مجموعة تواصل مراكز الفكر «T20» ويرفعها إلى مجموعة العشرين.
بدايةً، لا يمكن الحديث عن العدالة المناخية، ولا عن العدالتَين الاجتماعية والبيئية، في سياق انتشار العنف والصراعات المسلّحة المتعدّدة حول العالم7. فبحسب التقديرات، من المتوقَّع أن تشكّل الانبعاثات، العسكرية المصدر— وهو "موضوع محظور" في النقاشات والاجتماعات الدولية حول المناخ8 — أكثر من 5.5 بالمائة من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة عالميًّا، مع العلم أنّ هذا التقدير يستثني الانبعاثات التي تنشأ عن العمليّات الحربية والقتالية المباشرة9. تتحمّل دول مجموعة العشرين، وهي أكبر اقتصادات العالم، مسؤولية 87 بالمائة من حجم الإنفاق العسكري العالمي؛ ويتجاوز إنفاقها حاليًّا، مجتمعةً، مليارَي دولار أمريكي سنويًّا10. فالولايات المتَّحدة الأمريكية، وحدها، قدّمت مساعدات عسكرية بقيمة 17,9 مليار دولار أمريكي إلى إسرائيل منذ بدء عدوانها على غزّة العام الفائت، مع العلم أنّ هذا الرقم قد لا يمثّل الحجم الكامل للمساعدات11. كذلك، تُقدّم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وسواها من الدول الأوروبِّية، الدعم العسكري إلى الكيان الإسرائيلي، وغالبًا ما يكون هذا الدعم وفق أُطر قانونية ودبلوماسية، بما في ذلك توريد أجزاء يمكن استخدامها في الإنتاج المحلِّي للأسلحة12.
ثانيًا، تُفاقم الحروبُ الأزماتِ البيئية والإيكولوجية، وتدمّر البنى التحتية ومقوّمات الحياة الأساسية، وتتسبّب في موجات كبيرة من النزوح.وقد رأى خبراء في مجال حقوق الإنسان أنّ إسرائيل ترتكب إبادةً في حقّ سكّان غزّة، وفقًا للقانون الدولي الذي يُعرِّف «الإبادة»13 على أنّها «الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلِّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية»14. وقد وصف بعض المحلّلين الخسائر الفادحة في الأرواح البشرية التي تكبّدها الشعب الفلسطيني، والدمار الهائل الذي لحق بالمنازل، والبنى التحتية، والنسيج الحضري، والبيئة الطبيعية، بأنّها «إبادة المنازل»15، و«إبادة المدن»16، و«إبادة بيئية»17، وحتّى «إبادة مُماثلة للمحارق»18؛ وهذا في إشارة إلى أنّ يد العدوان لم تؤدِّ إلى نزوح السكّان فحسب، بل إنّها «قَضَت أيضًا على النسيجَين الاجتماعي والإيكولوجي للبلاد بالكامل»19. وعلى غرار غزّة، تشنّ إسرائيل عدوانها اليوم على لبنان بالوحشية والاستبداد المطلقَين ذاتهما، متجاهلةً القانون الدولي20 وإدانات الخبراء الأمَمِيّين المستنكِرة21؛ ذلك أنّها تتّبع في لبنان السياسة نفسها، سياسة الأرض المحروقة، مدمِّرَة بذلك كلّ ما يدعم الحياة، فضلًا عن تسميم الأرض بالفسفور الأبيض22، مستخدمةً أسلحة حارقة مُحرَّمة دوليًّا ومحظورة في الحروب23.
ثالثًا، إنّ العدوان المفرط الذي شنَّته إسرائيل على غزّة ردًّا على هجمات حماس في السابع من تشرين الأوّل، والذي لم يتوقّف منذ ذاك اليوم، واعتداءاتها التصعيدية في المنطقة، ما هي إلّا تحرُّكات إستراتيجية مُمَنهجة تهدف إلى نزع مقوّمات الحياة العمرانية والاقتصادية عن مناطق برمّتها، وإلى تهجير سكّانها قسرًا. ويرى المحلّلون السياسيّون أنّ الحرب الشاملة، التي تشنّها إسرائيل اليوم، هي جزء من محاولاتها المستمرّة لفرض نظام إقليمي جديد24، يخدم مشروعها الاستعماري الاستيطاني، وإستراتيجيّاتها التوسُّعية في الشرق الأوسط، المدعومة من الولايات المتّحدة الأمريكية25. وفي هذا الإطار، يكمن مسعى إسرائيل من عدوانها في السيطرة على الأراضي والموارد، بما يضمن لها فرض هيمنتها الاقتصادية والجيوسياسية على المنطقة، تمهيدًا لقيام «إسرائيل الكبرى» المزعومة26؛ ولطالما ركّزت أطماع إسرائيل التوسُّعية في لبنان على المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني وعلى مياهها27. وتشنّ إسرائيل اليوم، إلى جانب عمليّاتها العسكرية، حربًا نفسية على اللبنانيّين، حيث إنّها قد بدأت بنشر إعلانات وبإطلاق مواقع إلكترونية (مثل موقع uritsafon.com، الذي أُغلِقَ الآن)، تروّج من خلالها لبيوت فخمة ومستوطنات جديدة في الجنوب اللبناني28.
رابعًا، لا تتضمّن رؤية الولايات المتّحدة الأمريكية إلى شرق أوسط جديد، والتي يتبنّاها الاحتلال، التوسُّع إقليميًّا فحسب، إنّما تشمل شبكة من التحالفات التي تعمّق التبعيَّة الاقتصادية في المنطقة. وما الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبّا، الذي أُعلِن عنه مؤخّرًا خلال قمة مجموعة العشرين التي انعقدت العام الماضي في نيودلهي، سوى داعمٍ لهذا الهدف29. فصحيح أنّ هذا الممرّ يدعم الأهداف الإستراتيجية للدول المشاركة، إلّا أنّه يخدم في المقام الأوّل المصالح الأمريكية في منافستها مع الصين؛ ذلك أنّه يهدف إلى تحويل المشهد الجيوسياسي في المنطقة خدمةً لمصالح الولايات المتّحدة وإسرائيل، من خلال خطّة طموحة يُزعم أنّها ستعزّز فرص الوصول إلى الطاقة النظيفة، وتسهم في تمتين العلاقات التجارية والاقتصادية بين الهند وأوروبّا من خلال الخليج العربي والأردن وإسرائيل30. ولكن، بخلاف الادّعاءات حول قدرة هذا الممرّ على تحقيق «النموّ الاقتصادي المُستدام والشامل»31، من المتوقَّع أن يؤدّي إلى تهميش الأدوار الاقتصادية للقوى الإقليمية كمصر، والعراق، وتركيا، وإيران، وسوريا.
لا شكّ في أنّ اشتداد الحرب وتصاعُد التوتُّرات الجيوسياسية في غزّة ولبنان، وتعمُّق الانقسامات إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، تمثّل تحدّيات كبيرة أمام الدول المشاركة في قمّة مجموعة العشرين التي ستنعقد في ريو دي جانيرو. وتزيد الحاجة الملحّة إلى تنسيق الجهود المبذولة في سبيل مكافحة التغيُّر المناخي من كمّ التعقيدات، ومن ثقل الموضوعات التي ستتناقش فيها الدول. ويتوقّع المحلّلون أن يكون العام 2024 من الأعوام الأكثر إبهامًا في تاريخ قمم مجموعة العشرين، إذ يصعُب عليهم التنبُّؤ بما قد تؤول إليه الأمور، ما يثير مخاوف من أن تُختَتَم القمّة من دون التوصُّل إلى اتّفاق32. وما لم يجدّد قادة دول مجموعة العشرين التزاماتهم بصَوْن حقوق الإنسان، بدءًا بإدانة جرائم الحرب إدانةً مطلقة، وإيقاف تسليح الدول المُعادية، وفرض عقوبات عليها، لا يمكن ضمان حلّ النزاعات الجيوسياسية حلًّا كاملًا، بعدل ومساءلة. بالتالي، إنّ الحديث اليوم عن حقوق الإنسان، والانتقال المناخي العادل في عالم تجرّد من إنسانيته، ونهب بيئته ودمّرها، ما هو سوى ضرب من ضروب النفاق.
1. Lebanese Ministry of Public Health. Facebook page.
Link2. D. Brennan (October 4, 2024). Israel's offensive in Lebanon has displaced 1.2 million, prime minister says. ABC news.
Link3. OHCHR (September 30, 2024). UN experts alarmed by Israel-Lebanon conflict, strongly condemn escalation and urge immediate protection for civilians.
Link4. D. Johnson (September 30, 2024). Lebanon crisis: Over one million people flee strikes amid invasion fears. UN News.
Link5. Al Jazeera (October 15, 2024). Israel-Gaza war in maps and charts: Live tracker. Note: the above quoted figures do not include the number of those killed and injured in the Occupied West Bank.
Link
6. NRC (October 1, 2024). Israel-Gaza conflict: Only ceasefire can end suffering for civilians after catastrophic year. Press release.
Link7. H. Hamouchene (August 30, 2024). Imperialism, climate crisis and Palestine liberation. red pepper.
Link8. K. Naidu, N. Charaby, and D. Williams (March 13, 2024). Why the Climate Justice Movement Cares about Gaza. Rosa Luxemburg Stiftung.
Link9. UNFCCC. Recognise Military and Conflict Emissions in the Global Stocktake.
Link10. Ibid.
11. According to a report by Brown University’s Watson Institute, cited by Al Jazeera (October 7, 2024).
Link12. Euro News (October 9, 2024). Are European countries still supplying arms to Israel.
Link13. UN News (March 26, 2024). Rights expert finds ‘reasonable grounds’ genocide is being committed in Gaza.
Link14. The Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide (1948), Article II.
15. J. D. Porteous and S. E. Smith (2001). Domicide: The Global Destruction of Home. McGill-Queens University Press, Montreal and Kingston.
Link16. Beirut Urban Lab (n.d.). Tracking the Urbicide in Gaza.
Link17. N. de Pompignan (November 3, 2007). Ecocide, Mass Violence & Résistance. Sciences Po.
Link18. A. Kanji (June 26, 2024). Genociders International: Upholding the “Right to Colonize” in Palestine. Yellowhead Institute.
Link19. Ibid.
20. OHCHR (September 30, 2024). UN experts alarmed by Israel-Lebanon conflict, strongly condemn escalation and urge immediate protection for civilians.
Link21. OHCHR (October 4, 2024). Lebanon: UN experts deplore Israel’s increasing disregard for international law.
Link22. B. Fernández (December 23, 2023). Israel is taking scorched earth policy to a new level. Al Jazeera.
Link23. H. Chaabane (August 27, 2024). Scorched Earth Policy: Israel’s War on South Lebanon. The Legal Agenda.
Link24. B. Barthe and J. Rémy (October 2, 2024). How Israel is trying to impose a new regional order in the Middle East. Le Monde.
Link25. T. Dana (May 12, 2024). Notes on the ‘Exceptionalism’ of the Israeli Settler-Colonial Project. Middle East Critique, Volume 33, Issue 2, pp. 165-172.
Link26. E. Maţoi (n.d.). Greater Israel: an Ongoing Expansion Plan for the Middle East and North Africa. Middle East Political and Economic Institute.
Link27. S. Hijazi (November 27, 2023). Does Israel have territorial ambitions in Lebanon? L’Orient Today.
Link28. علي عواد (٢ تشرين الأول ٢٠٢٤). شركات الاستيطان بدأت عروضها على جنوب لبنان: "إسرائيل الكبرى" بين هلوسات صهيون وسخرية الواقع! جريدة الاخبار.
30. A. Rizzi (April 2024). The Infinite Connection: How to Make the India-Middle East-Europe Economic Corridor Happen. Policy Brief. European Council on Foreign Relations.
31. Y. Bhatt and J. Roychoudhury (October 02, 2023). India-Middle East- Europe Economic Corridor (IMEC)
Bridging Economic and Digital Aspirations. Instant Insights. King Abdullah Petroleum Studies and Research Center (KAPSARC).
32. H. Tran (April 12, 2024). Brazil’s approach to the G20: Leading by example. Atlantic Council.
Link
وكالة البيارق الإعلامية www.bayariq.net
bayariqmedia@gmail.com
المدير العام ورئيس التحرير
محمد توفيق أحمد كريزم