فضيلة الشيخ خالد عبد العزيز الباتلي
عباد الله .. إن من سنن الله تعالى أن يقلب الليلَ والنهار، ويصرف الأعوام والشهور، وما يتبع ذلك من اختلاف الفصول، وتبدل المواسم. وإننا في هذه الأيام نعيش حرا لاهبا، وصيفا لافحا، فانزعج الناس، وصاروا يبحثون عن الظل الظليل، والهواء العليل، وتتابع الناس مشرقين ومغربين، فارين من هذا الحر الشديد.
ومن طبع ابن آدم أنه ملول جهول، فإذا جاء الصيف تضجَّر منه، وإذا حلَّ الشتاء تضجَّر منه، وفي ذلك يقول القائل:
يتمنَّى المرءُ في الصيف الشِّتَـــــا | فــــــإذا جــــــاء الشِّتَـــــــا أَنْكَــــــــــــــرهُ | |
فهْوَ لا يـرضَى بحالٍ واحــــــــــــدٍ | قُتِــــــــــــلَ الْإِنْسَــــــانُ مَا أَكْفَــــــــرهُ! |
أيها الإخوة .. إن توالي هذه الأزمنةِ، وتكرارَ هذه الفصولِ عبرةٌ وتذكرة، فصول تتوالى، وشهور تتعاقب، وهي مراحلُ يقطعها المرء في سفره، حتى يصلَ إلى نهاية مدتِهِ وعمره.
إنّ في تعاقب الحرِّ بعد البرد دليلاً من دلائل ربوبية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقلّب الأيامَ والشهور، ويطوي الأعوامَ والدهور، وهو سبحانه المهيمنُ المدبرُ، بيده تصريفُ الأمور، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].
هذا الحر اللاهب؛ من أين يأتي؟
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قالت النار: رب أكل بعضي بعضا، فاذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين؛ نفسٍ في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نَفَسِ جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم) [ رواه البخاري: (3260), ومسلم: (617), واللفظ له.] .
وهجُ الشمس الذي يصلانا هذه الأيامَ مع بعدها عن الأرض، كيف يكون حينما تدنو قدر ميل، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه”، قال سليم بن عامر: والله ما أدري ما يعني بالميل مسافةُ الأرض، أو الميل التي تكحل به العين [ رواه مسلم: (2864).] .
قال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار: يا كعب، خوفنا بالنار!! فقال يا أمير المؤمنين: لو فُتح من جهنم قَدْرُ مِنْخَرِ ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلا دماغه، حتى يسيل على الأرض، فغشي على عمر رضي الله عنه [ رواه أحمد في الزهد: (641), والأصبهاني في الحلية: (5/ 368).] .
إن أعظم تذكرةٍ من هذا الحر الشديد أن يذكرنا بحر جهنم أعاذنا الله منها .
تفـــــــــــــــــر من الهجـــــــــــــير وتتقيـــــــــــــه | فهـــــــــــــلا من جهنــــــــم قد فـــــررتا | |
وتشفـــــــــق للمــــصر على الخطايا | وترحمَــــــــــه ونَفْسَــــــــــك ما رحمتـــــــا |
النارُ موحشةٌ، أهوالُها عظيمةٌ، وأخطارُها جسيمةٌ، وعذابها أبداً في مزيد، لا يُفَتَّرُ عنهم وهم فيه مبلسون، كلما خَبتْ زادها الله سعيراً.
ذكرت النار عند أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: “أترونها حمراءَ كناركم هذه؟! لهي أسود من القار” [ رواه مالك في الموطأ – الأعظمي – : (3648), وصحح إسناده الألباني في صحيح الترغيب: (3670). ] .
رأى عمر بن عبد العزيز قوما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى ثم أنشد:
من كان حــين تصيبُ الشمـــسُ جبهتَه | أو الغبــارُ يخــاف الشـينَ والشعثــــا | |
ويألــفُ الظـلَّ كي تبـقى بشــاشتــــه | فســـوف يســكنُ يومـاً راغمـاً جدثــا | |
في ظـل مقفـرةٍ غـبراءَ مظـلمــةٍ | يطيــــلُ تحت الـــثرى في غمِّها اللبثا | |
تجـهزي بجهـازٍ تبــلغـــين بــه | يا نفـــسُ قبل الردى لم تُخلقي عبثـــا |
عباد الله: من الوقفات والمواعظ في هذا الموسم، ونحن نصالي الهجير والرمضاء أن نتذكر نعم الله علينا، وعظيم فضله بما يسر من وسائل نتقي بها حر الصيف، ولهيب الشمس، من ملابسَ وظلالٍ وارفة، وأجهزةِ تبريدٍ وتكييفٍ قلبت الصيف شتاء، فبَرَدَ الهواءُ والماء في شدة الحر، وصار الجو الباردُ مع المرء في البيت وفي السيارة وفي المسجد وفي العمل وفي السوق، فالحمد لله على نعمه. قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]
أيها الإخوة .. ومن الوقفات والمواعظ في حر الصيف؛ أن ينتصر المؤمن على نفسه، ويخالف هواه وراحته، في سبيل طاعة ربه. فلا يجوز للمسلم أن يخل بواجب، أو يقارف حراما بسبب شدة الحر.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة إلى غزوة تبوك، وكانت في حَرٍ شديدٍ، وسَفَرٍ بعيد، وكانت امتحانا لتمييز المؤمن من المنافق، فتخلف المنافقون عن النفير مع النبي صلى الله عليه وسلم بسبب شدة الحر، وقد طابت الثمار والظلال في المدينة، فجاء الوعيد في القرآن المجيد: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابنِ رواحة [ رواه البخاري: (1945), ومسلم: (1122).] .
روي أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان يَصوم في الصَّيف ويُفطِر في الشتاء. ووَصّى عمرُ رضي الله عنه ابنَه عبدَ الله فقال: “عليك بخصال الإيمان”، وسمَّى منها الصومَ في شدّةِ الحرِّ في الصيفِ [ رواه البيهقي في الشعب: (2501).] .
ظمأ الهواجر: “الصيام في أيام الحر الشديد!”، وهكذا فلتكن الهمم.
نعم .. إن هذا قد عرف حقيقة هذه الأيام، وتطلع أن يقال له: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]
الخطبة الثانية:
عباد الله .. من السنن في شدة الحر: الإبراد بصلاة الظهر، ومعناه أنه يستحب تأخيرها إلى أن ينكسر الحر، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم” [ رواه البخاري (536), ومسلم (615).] .
وهذه السنةُ عامةٌ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شدة الحر من فيح جهنم)، وهذا يحصل لمن يصلي جماعة، ولمن يصلي وحده، ويدخل في ذلك النساء، فإنه يسن لهن الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر.
كما نُذكِّر في هذه الأيام الذين يسهرون الليل لقصره في الصيف أن يغتنموا آخره، فإنه وقت شريفٌ مبارك، فالثلثُ الأخير من الليل وقتُ نزولِ الرحمات، واستجابة الدعوات، ذلك لأنه وقتٌ ينزل اللهُ العلي نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وذلك كلَّ ليلة، فينادي عباده وهو الغني عنهم: هل من مستغفر فأغفرَ له، هل من تائب فأتوبَ عليه، هل من سائل فأعطيه سؤله. فينبغي أن يتذكر الساهر في الليل ويتنبه إلى فضيلة هذا الوقت المبارك، ولا يحرم نفسه من بركة هذا الوقت.
أكتب تعليقك هتا