يوم عاشوراء
الشيخ الدكتور: خالد بن عبد العزيز الباتلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وبعد
فهذه وقفات وتنبيهات وأحكام تتعلق بشهر الله المحرم، وما يتصل به:
الوقفة الأولى: عبرة وعظة
عام أفل وعام أطل، مضى عام كامل، تصرمت أيامه وقوضت خيامه، مضى وانقضى سريعا بأفراحه وأتراحه، ولد فيه أناس ومات آخرون، عَمَرَه أناسٌ بمعالي الأمور فانتفعوا ونفعوا، وضيعه آخرون فخابوا وخسروا.
توالي الأيام، وتعاقب الأعوام حدث يتأمله اللبيب ويتدبره.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، وقال تعالى: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ﴾ [النور: 44].
الليل والنهار خزائنُ للأعمال، ومراحلُ للآجال ، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، لإيقاظ الهمم، وتنشيط العاملين لملء هاتين الخزانتين بما ينفع يوم الحاجة إلى العمل. فإن قصرت في النهار فتدارك بالليل، وإن فرطت في الليل فاغتنم النهار، فهكذا يكون الاعتبار بمرورهما، فإنهما يُبليان كل جديد، ويقرِّبان كل بعيد، ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ [الفرقان :62].
قال الحسنُ البصريُّ رحمه الله : “ما من يوم ينشقُّ فجرُه إلا ويُنادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزوّد منِّي فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة “.
وعظ الفضيلُ بنُ عياضٍ رجلا فقال: كم أتى عليك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال: فأنت مُنذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشِكُ أن تبلُغ!.
وقال الحسن البصري: عبد الله؛ إنما أنت أيام كلما مضى منك يومٌ مضى بعضُك!.
إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعُها *** وكلُّ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ
فاعملْ لنفسكَ قبل الموتِ مجتهدا *** فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ
يا من تمر عليه سنةٌ بعد سنة وهو مستثقل في نوم الغفلة والسِّنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا فعام، يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والدهور، أما آن للقلب أن يلين، أما آن للنفس أن تتوب، وتغتنم بقية العمر لأهوال القبر والحشر
نسيرُ إلى الآجال في كلِّ لحظةٍ *** وأعمارُنا تُطوى وهنَّ مراحلُ
ترحَّلْ من الدنيا بزادٍ من التقى *** فعمرُك أيامٌ وهن قلائلُ
جرت عادة التجار في آخر العام أن يقوموا بالجرد السنوي، وتدقيق الحسابات، ومراجعة السجلات، وإن محاسبة النفس أولى، وهي مشروعة في كل وقت، لا تختص بأول العام أو آخره، ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾ [ الحشر: 18].
كان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: “المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة”.
إن هذا الزمان نعمةٌ لا تقدر بثمن لكن من يقدرها حق قدرها؟، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري (6412)
العام الجديد ضيفٌ وليد؛ فأكرموا وفادته بحسن استغلاله وعمارته بما يفيد، وأن نعتبر بما ضيعنا من أعمارنا، وما فرطنا فيما سلف من أعوامنا
قطعت شهورَ العام لهوا وغفلة *** ولم تحترمْ فيما أتيتَ المحرما
فلا رجبا وافيتَ فيه بحقهِ *** ولا صمتَ شهرَ الصومِ صوما متمما
ولا في ليالي عشرِ ذي الحجةِ الذي *** مضى كنتَ قواما ولا كنتَ محرما
فهل لك أن تمحو الذنوبَ بعبرة *** وتبكي عليها حسرةً وتندما
وتستقبل العامَ الجديدَ بتوبة *** لعلك أن تمحو بها ما تقدما
الوقفة الثانية: شهر الله المحرم
شهر المحرم أحد الأشهر الحرم الأربعة التي نص عليها القرآن فقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمٰوٰت وَٱلأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [التوبة: 36]، وبينت السنة هذه الأربعة، كما ثبت في حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم؛ ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان” رواه البخاري (3197), ومسلم (1679)
وسميت هذه الأشهر الأربعة حرما؛ لعظم حرمتها، ولحرمة القتال فيها، كما سيأتي.
وقد كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر الحرم، فهو مما أقره الإسلام من أمر الجاهلية.
قال الله عنها: ﴿ .. مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ وفسر الظلم بأنه فعل المعاصي وترك الطاعات، وهو يشمل ظلم العبد لنفسه بالشرك والمعصية، وظلم العبد لغيره من الخلق بأنواع المظالم.
قال ابن عباس: خص الله من شهور العام أربعةَ أشهر فجعلهن حرما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم. رواه البيهقي في الشعب (3525)
وقال قتادة: العمل الصالح أعظمُ أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظمُ من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً. أخرجه ابن أبي حاتم (10010)
وذهب جماعة من السلف والخلف إلى أن محرم أفضلُ الأشهر الحرم الأربعة – ورجح ذلك الإمام النووي، واستظهر ابنُ رجب أفضلية ذي الحجة. (لطائف المعارف) ص203– ، قال الحسن البصري: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام، فليس شهرٌ في السنة بعد شهر رمضان أعظمَ عند الله من المحرم. ينظر: لطائف المعارف (ص36)
فينبغي للعبد مراعاة حرمة هذه الأشهر ومنها شهرنا هذا لما خصها الله به من المنزلة، والحذر من الوقوع في المعاصي والآثام تقديرا لما لها من حرمة، لأن المعاصي تعظم بسبب شرف الزمان الذي حرّمه الله.
وأما القتال في هذه الأشهر الحرم فتحريمه من بقايا دين إبراهيم صلى لله عليه وسلم الذي تمسك به العرب في جاهليتهم، وحكمه في شرعنا أن القتال على نوعين:
- قتال دفع كما لو هوجم المسلمون من قبل أعدائهم، فهنا يقاتل المسلمون ولو كانوا في الأشهر الحرم باتفاق العلماء.
- قتال هجوم وابتداء، فهذا محرم بقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، يعني عظيم عند الله، وبقوله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [المائدة: 2]
لكن اختلف هل نُسخ التحريم أم هو باق؟
ولعل الأظهر أن ابتداء القتال في الأشهر الحرم باق على تحريمه، ويؤيده حديث جابر t قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغزى، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ. رواه أحمد: (14583), وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم
وصوب هذا القول الشيخ ابن عثيمين في تفسيره 3/ 55.
ومن فضائل هذا الشهر: أنه الشهر الذي أضيف إلى الله تعالى من بين الشهور، كما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) رواه مسلم (1163)
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “إضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله؛ فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواصَ مخلوقاته” أ. هـ. لطائف المعارف (ص36)
وهذه الخاصية لم تثبت لغيره من الشهور.
ومن فضائل هذا الشهر: فضيلة الصيام فيه، للحديث المتقدم، فأفضل الصيام بعد فريضة رمضان شهر الله المحرم.
ومن فضائل هذا الشهر: أن فيه يومَ عاشوراء، وفيه أحكام وتنبيهات يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
الوقفة الثالثة: موسى وفرعون
الأيام دولٌ، والليالي قُلَّب، والتاريخ كتاب مفتوح يُقتبس منه العبر والدرر
ومن وعى التاريخ في نفسه *** أضاف أعمارا إلى عمره
وإن من أحداث التاريخ الخالدة: قصةَ موسى وفرعون.
قصةٌ فصَّلها القرآن وكررها، فهي أكثرُ قصة تكررت في كتاب الله تعالى.
بلغ فرعون مبلغا عظيما في العتو والتجبر والغطرسة، ادعى الربوبية فقال: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ [النازعات: 24] ، وادعى الألوهية فقال: ﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ [القصص: 38]، حكم مصر فاستضعف بني إسرائيل، وهم خيار الأرض آنذاك، وأذلهم واستعبدهم في أخس الصنائع والمهن.
رأى في منامه يوما رؤيا أفزعته وأرعبته، فسأل عنها فقيل: هذا غلام من بني إسرائيل يكون هلاك ملك مصر على يديه، فطاش عقله، وأمر ألا يبقى ذكرٌ من بني إسرائيل، فرتب القوابل والجنود يدورون على النساء الحوامل فإن وضعت ذكرا ذبحوه على الفور، وإن وضعت أنثى تركوها، وقد امتن الله على بني إسرائيل بعد ذلك فقال: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ – أي يتركونهن – وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49].
ولما وضعت أم موسى ابنها – وهم من بني إسرائيل – أصابها قلق واضطراب، ولم تدر ما تصنع خوفا من الذباحين، فجاءها الفرج والإلهام من الله اللطيف بعباده: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 38].
وشاء الله بحكمته أن ينشأ موسى في بيت فرعون، وفي عقر داره!.
وتوالت الأحداث، وشرف الله موسى عليه السلام بالرسالة، وأيده بالآيات، وأمره بدعوة فرعون، لكن فرعون قابل هذه الدعوة الربانية بالتكبر والجحود.
وكان فرعون يعمي على آيات موسى البينات بأنها سحر، وتوعده بسحر مثله، وتواعدوا ضحى يوم الزينة.
اجتمع الفريقانِ في محفلٍ عظيم، وألقى السحرةُ سحرهم، وألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون، فجن جنون فرعون، فأزبد وتوعد وهدد، لكن الإيمان إذا استقر في القلب صنع العجائب، فصدعوا في وجهه قائلين: ﴿ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ ، فكانوا أولَ النهار سحرةً فجرة، وفي آخره أتقياءَ بررة، وجرت أحداث وعبر، حتى أوحى الله لموسى أن يخرج بمن آمن معه من أرض مصر ليلاً، فخرجوا قاصدين بلاد الشام، فعلم فرعون بخروجهم فجمع جيشه، وجنّد جنوده، وسار خلفهم حتى تراءى الجمعان فقال أصحاب موسى: إنا لمدركون، البحر أمامنا، والعدو خلفنا، فأين المفر؟.
فأجابهم موسى بكل ثقة وثبات وإيمان: ﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ ، فجاءه المدد: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق بإذن الله اثني عشر طريقاً يابساً، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنودُه في أثرهم، فلما جاوزه موسى وقومه، وتكاملوا خارجين إلى اليابسة، وتكامل فرعون وقومُه داخلين، أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين.
يومٌ عظيم من أيام الله المشهودة، وآيةٌ باهرة أيَّد بها رسولَه وأولياءه، وكان يومُ النجاة العظيم: اليومَ العاشر من شهر المحرم، يوم عاشوراء.
عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى لله عليه وسلم قال: (إن عاشوراء يومٌ من أيام الله) رواه مسلم (1126)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى لله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومَه، وغرَّق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله صلى لله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى لله عليه وسلم وأمر بصيامه. رواه البخاري (2004), ومسلم (1130)
الوقفة الرابعة: يوم عاشوراء
يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم عظيم من أيام الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيامه ويحرص عليه، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء. رواه البخاري (2006), ومسلم (1132)
وصيامه مما توارد عليه المسلمون واليهود وأهل الجاهلية.
وجاء فضله الجزيل فيما رواه أبو قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صيام يوم عاشوراء، أحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي قبله” رواه مسلم: (1162).
وهذا التكفير في هذا الحديث ونحوه منصبٌ على الصغائر من الذنوب، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم.
كان صيامه واجبا في أول الأمر قبل فرض رمضان، فامتثل الصحابة الأمر، بل كانوا يصومون الصبيان الصغار، كما قالت الرُّبيع بنت معوِّذ رضي اللَّه عنها: أرسل رسول اللَّه صلى لله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان مفطراً فليتم بقية يومه – يعني بالصيام -، قالت: فكنّا بعد ذلك نصومه، ونصوِّمه صبياننا الصغار، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم أعطيناها إياه، حتى يكون الإفطار. رواه البخاري (1960), ومسلم (1136)
مراتب صيام عاشوراء – ينظر: (زاد المعاد) لابن القيم 2/76 ، (فتح الباري) لابن حجر 4/246 ، مجموع فتاوى ابن عثيمين 20/ 34 – :
أكمله: أن يصام قبله يومٌ وبعده يوم، فيصوم ثلاثة أيام 9، 10، 11، وورد في ذلك حديث، لكن سنده ضعيف، ويشهد له ما ورد في فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وما ورد من فضيلة الصوم في محرم، فكلما أكثر المسلم من الصوم فيه فهو خير وأجر.
الثانية: أن يصام التاسع والعاشر، لحديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال رسول اللَّه صلى لله عليه وسلم: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”, – يعني مع العاشر – رواه مسلم (1134).
الثالثة: أن يصام العاشر والحادي عشر، لما فيه من مخالفة اليهود، ومن مزيد الصوم المرغب فيه في شهر محرم.
الرابعة: إفراد العاشر، وهذه جائزة ويرجى لفاعله الأجر إن شاء الله تعالى، ومع الاستطاعة خلاف الأولى.
وثمة بعضُ الأحكامِ والتنبيهات حول يوم عاشوراء، منها:
- لا بد من تبييت النية من الليل، ليصدق صيامُ اليوم لأن اليوم يبدأ من طلوع الفجر، ولو لم ينو إلا بعد الفجر فيصح الصوم نفلا مطلقا يثاب عليه، لكن ليس كصيام يوم عاشوراء.
- من كان عليه قضاء أيام من رمضان كالمريض والمرأة، فإنه يجوز أن يصوم عاشوراء بنية قضاء ما عليه من رمضان، ويرجى أن يكون له أجر القضاء وأجر صيام عاشوراء، وفضل الله واسع.
- لو مر على الإنسان يوم عرفة أو عاشوراء ولم يستطع الصوم لمانع، كالمريض أو المرأة الحائض، فلا يقضى هذا اليوم؛ لأنه سنة مختصة بيوم معين يفوت حكمه بفوات هذا اليوم.
- لم يصح في فضل التوسعة على العيال في هذا اليوم حديث، وقد أنكر شيخ الإسلام وغيره ما يروى عن النبي صلى لله عليه وسلم: (من وسَّع على أهله في يوم عاشوراء وسع اللَّه عليه سائر سنته)، فهو حديث ضعيف، رواه الطبراني في الأوسط: (9302), والبيهقي في الشعب: (3512) وقال – بعد ذكر سنده -: هذا إسناد ضعيف.
- من الوقفات التربوية المنهجية في هذا الحدث: أن نتذكر في يوم عاشوراء نصرةَ الله لأوليائه في أحلك الظروف وأصعب المواقف، كما حصل لموسى وقومه، وهذا يجدد في النفس كل سنة البحثَ عن هذه النصرة وأسبابِها، فهو يوم النصر والنجاة، لكنَّ النصر يتطلب البذل والعمل، كما أنه يبعث على الفأل.
- صيام يوم عاشوراء دليل على أن الشكر يكون بالفعل كما هو بالقول حتى عند الأمم السابقة، فقد صامه موسى عليه السلام شكراً لربه تعالى، وهذا منهج الأنبياء كما فعل داود عليه السلام }اعملوا آل داود شكرا{ [سبأ: 13]، وامتثله نبينا صلى لله عليه وسلم في صلاته بالليل، فلما سئل عنها قال: “أفلا أكون عبداً شكوراً” رواه البخاري: (1130), ومسلم: (2819). فاشكروا نعم الله التي تترادف وتترى، وليكن الشكر بالقلب واللسان والعمل.
الوقفة الخامسة: التاريخ الهجري
التاريخ رمزٌ من رموز الأمة في ثقافتها وحضارتها وتميزها، فالصينيون القدماء لهم تأريخ، والمصريون كانوا يؤرخون بالنجوم، والفرس كانوا يؤرخون بولاية ملوكهم، والنصارى يؤرخون بميلاد المسيح.
وفي عهد عمر الفاروق رضي الله عنه كتب أبو موسى الأشعري إليه: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ، فجمع عمرُ الناسَ للمشورة، فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بمولده، وقال علي رضي الله عنه وآخرون : بل من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد، فاستحسن ذلك عمرُ والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من حدث الهجرة، وجعل ابتداء العام من المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، وإلا فإن وصول النبي صلى لله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان في شهر ربيع الأول.
فهذا التوقيت هو التوقيت الشرعي الذي يربط الأشهر بدورة القمر حول الأرض من الهلال إلى الهلال ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189] فربطت عبادات الناس كالصوم وحول الزكاة والحج والعِدَد، وأعيادُهم ومعاملاتُهم بهذه الأهلة.
ثم هذا التاريخ مرتبط برسول هذه الأمة وهو أفضل الرسل، وبمعلم من معالم سيرته وهو الهجرة من مكة، وتكوين الدولة الإسلامية في المدينة، ويرمز إلى العزة والقوة بقوة شوكة المسلمين وظهور أمرهم، ورهبة الناس منهم.
وهذه التاريخ وضعه عمر t وله سنةٌ متبعة، واتفق عليه الصحابة، واستمر به العمل في تاريخ المسلمين على مر القرون، حتى سقطت الخلافة الإسلامية في الدولة العثمانية عام 1340هـ، أي قبل مائة عام تقريبا، فكان من آثار ذلك أن ألغي العمل بالتاريخ الهجري وجعل بدله التاريخ الميلادي في ضربة موجعة للهوية الإسلامية.
وإن من المؤسف أن تخلت الدول الإسلامية على كثرتها عن هذا التاريخ، ونحته عن نظامها، وهذا له أثره الكبير في التبعية والانهزامية، وفقدان الهوية، وأثره التربوي على الأجيال الناشئة التي تنشأ على تأريخ غيرها وتنبذ تأريخها، ولم يبق فيما نعلم إلا هذه الدولة (المملكة العربية السعودية) حرسها الله، فقد حافظت عليه، ونص نظامها الأساسي على اعتبار العمل بهذا التاريخ في جميع الدوائر والمؤسسات الحكومية والخاصة.
فالنصيحة العمل بهذا التاريخ والاعتزاز به، وتربية النشء على ذلك.
الوقفة السادسة: التهنئة بالعام الجديد
التهنئة بالعام الهجري الجديد ليست من الأمور المشروعة التي يحث الناس عليها، وليست من البدع، فهي من قبيل العادات التي لا تقال على وجه التعبد، فلا تبتدئْ بها، وإن هنَّأك أحدٌ فأجبه، ولا ينبغي التزام ذلك وإشهاره في اللقاءات ورسائل الجوال ونحوها، لأن ذلك يلحقه بالعيد الذي يتكرر ويعود كل سنة، ويرتقي إلى التشبه بالنصارى الذين يلتزمون التهنئة برأس السنة الجديدة.
الوقفة السابعة: مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهم
من الأحداث المهمة في التاريخ الإسلامي، والتي وافق وقوعها في يوم عاشوراء: مقتلُ الحسين بنِ علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، سبطِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، وأمُّه فاطمةُ الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، قتل في يوم الجمعة، سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وله من العمر ثمانٌ وخمسون سنة.
وكان هذا من المصائب العظيمة على الأمة، التي جرت عليها من الفتن ما لا يعلمه إلا الله، وغلا في ذلك طوائف من الشيعة فجعلوا هذا اليوم مأتما في كل عام، ينوحون ويبكون ويحزنون، وجاوزوا ذلك بتصرفات مقيتة يمجها العقل السليم والفطرة السوية فضلا عن الدين الحنيف، من ضرب أنفسهم بالسلاسل المحددة، وجرحها بالسيوف والسكاكين حتى تسيل الدماء، فشوهوا صورة الإسلام والمسلمين، وصار المغرضون ينشرون هذه الصور والمقاطع، ويقولون: هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم المسلمون، ولا ريب أن عملهم من الضلال المبين.
ولا شك في فضل الحسن والحسين ومحبتنا لهما، وجميع آل البيت ممن آمن بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أصاب الحسين مصيبةٌ من المصائب نرجو له الشهادةَ والرفعة، ولا نقول ولا نفعل إلا ما يرضي الرب من الترضي عليه، والاسترجاعِ على هذه المصيبة.
عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود – أي كساء عليه نقوش – فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) رواه مسلم (2424)
والله الموفق، وهو أعلم بالصواب، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
أكتب تعليقك هتا