إذا غابت شمس يوم عرفة، دفع الحجاج إلى مزدلفة ملبين ومكبرين، وعليهم السكينة والوقار حتى يأتون مزدلفة، وسميت مزدلفة بذلك من التزلف والازدلاف، وهو التقرب؛ لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات از دلفوا إلى منى أي مضوا إليها وتقربوا منها، وقيل سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زُلف من الليل أي ساعات (۱) .
قال تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَنَكُمْ وَإِن كُنتُم مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: ۱۹۸].
قال البغوي رحمه الله تعالى: (قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ بالدعاء والتلبية ﴿ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾. وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمَى عرفة إلى المحسّر، وليس المأزمان (۲) ولا المحسّر من المشعر، وسمي مشعرًا من الشعار وهي العلامة، لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام: المنع، فهو ممنوع أن يفعل فيه مالم يؤذن فيه، وسمي المزدلفة جمعا، لأنه يُجمع فيه بين صلاتي العشاء)(3)، والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس، وجمع قبل طلوعها من يوم النحر.
قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير (4) كيما نغير، فأخَّر الله هذه وقدم هذه (5).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (ودفع رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» وقد شنق (6) للقصواء الزمام - حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة» كلما أتى حبلاً من الحبال (7) أرخى لها قليلاً، حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبَّره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا فدفع قبل أن تطلع الشمس) (8).
وفي الآية السابقة، وحديث جابر بيان لفضل ليلة مزدلفة وما فيها من أعمال إما تجب أو تسن في حق الحاج، ولهذه الأعمال ثمار قلبية ومعان إيمانية، منها:
(1) يجب على الحجاج المبيت بمزدلفة حتى الفجر، والترخيص للضعفة ومن في حكمهم في الدفع إلى منى بعد منتصف الليل. والمبيت يعني اللبث في المكان ليلاً، ولكن هناك معنى زائد على المبيت في مزدلفة، وهو النوم بعد صلاة المغرب والعشاء.
وهذا سنة عن النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» كما دل عليه حديث جابر رضي الله عنه.
وتجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من الحجاج - هداهم الله - يغفلون عن هذه السنة فينشغلون عنها بالكلام والحديث فيما بينهم أول الليل بل إن فئاما منهم قد يتحدثون إلى منتصف الليل، بل ربما أكثر من ذلك، وفي ترك السنة دون مانع تفويت الخير كثير، فالسنة كلها بركة. وما تمسك أحد بالسنة النبوية وتقيد بها إلا شملته البركة - بقدر تمسكه بها - في نفسه وأهله وولده وماله ووقته.
يقول أبو العباس ابن عطاء: (من ألزم نفسه آداب السنة عمر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه)(9).
(۲) ذكر الله جل وعلا بعد صلاة الفجر عند المشعر الحرام - ومزدلفة كلها مشعر - بالدعاء والتكبير والتهليل حتى الإسفار ، ثم الدفع إلى منى قبل شروق الشمس مخالفة لفعل المشركين إذ لا يدفعون إلى منى حتى تشرق الشمس.
والذكر هو شعار المحبين فعلى قدر محبة المؤمن لربه يكون ذكره له جل وعلا، ولذا أمر الله جل وعلا بذكره في مواضع عدة من الحج: قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَنكُمْ ﴾ [البقرة: ۱۹۸].
وقال جل وعلا: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله } [البقرة: (۱۹۹]، والاستغفار نوع من أنواع الذكر.
وقال جل شأنه: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [البقرة: ٢٠٠].
وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: ٢٠٣]، وهي أيام التشريق.
وقال عز وجل:﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَمِ ﴾ [الحج: ٣٤].
وقد بين النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» فضل الذكر في أحاديث عدة، منها: قال : (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت) (10) .
وكان عليه الصلاة والسلام يسير في طريق مكة، فمرَّ على جبل يقال له: حمدان، فقال: (سيروا هذا جمدان، سبق المفردون)، فقالوا: وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : (الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات) [الأحزاب: ٣٥](11).
وذكر «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)(12).
وقال«صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»: ( ثلاث لا يرد الله دعاءهم: الذاكر الله كثيرا، : ودعوة المظلوم، والإمام المقسط)(13).
والذكر له روحان لا يؤتي أكله وثماره يانعة إلا بهما، وهما التضرع والخوف وهما عبادتان قلبيتان إذا خلا القلب منهما فالذكر لا روح فيه. قال تعالى: ﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ﴾ *[الأعراف: ٢٠٥].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقارناً بين الذكر والدعاء وتأمل كيف قال في آية الذكر : ﴿ وَاذْكُر رَبَّكَ ﴾ الآية، وفي آية الدعاء: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ فَذَكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء.
وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولا بد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره؛ لأنها توجب التواني والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل إلى أن قال رحمه الله - والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاصي.
فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما كلَّها شيء كالخائف الذي معه سوط يضرب به مطيته، لئلا تخرج عن الطريق) (14).
(3) في قوله جل وعلا: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ﴾ وهو نصف الإيمان كما تقدم والإيمان نصفان: نصف شکر، ونصف صبر ) (15).
(4) عن عمر بن ميمون قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: (إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، وإن النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس) (16).
فمخالفة المشركين في الإفاضة من عرفة بعد مغرب الشمس، والدفع من مزدلفة مع الإسفار قبل طلوع الشمس أمر مقصود شرعًا.
إذ إن الحج ومشاعره من إرث أبينا إبراهيم عليه السلام فأعاد لكن المشركين بدلوا فزادوا فيه ونقصوا، فجاء النبي ص الحج ومشاعره على ما كان عليه من عهد أبينا إبراهيم عليه السلام.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (الشريعة قد استقرت -ولا سيما في المناسك على قصد مخالفة المشركين)(۳).
فمخالفة المشركين في الحج وفي غيره أمر مطلوب شرعًا لأسباب عدة، منها:
(1) ليحصل التميز بين المسلمين والمشركين في الحج ومشاعره بل كذلك بين المسلمين واليهود كما في صيام يوم عاشوراء فالنبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» كان يتعمد مخالفة المشركين وكذلك أهل الكتاب.
وعدم المشابهة المقصود منها لئلا يحصل لبس أو تلبيس بين دين الإسلام وغيره من الأديان، فيظن أن الفرق بينها يسير، سواء كان ذلك عند العامة من المسلمين، أو عند الكفار ممن لا يعرف حقيقة الإسلام والشرك والكفر، أو ممن يحاول التقريب بين الإسلام وغيره من الأديان والمذاهب الكفرية بشبه واهية، فحقيقة الأمر،﴿ لكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون : ٦].
( 2) المشابهة في الحقيقة لها أثر كبير على القلب ومن ثم على الأخلاق وهكذا حتى تصل إلى العقيدة - لا قدر الله -.
يقول شيخ الإسلام عن هذا الأمر: (وأصل المشابهة: وذلك أن الله تعالى جَبَل بنى آدم بل سائر المخلوقات، على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر، كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميّز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط - إلى أن قال رحمه الله - فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي) (18).
وعلى هذا فالمشابهة في الظاهر لها أثر على المشابهة في الباطن، وكذلك لها أثر على المحبة والائتلاف ولهذا أمر الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» بمخالفة المشركين وأهل الكتاب وغيرهم والتميز عنهم في الظاهر والباطن، وعدم التساهل في ذلك.
وتميز المسلم بشخصيته الإسلامية المتكاملة القائمة على منهاج النبوة له أثر بالغ في ثباته على دينه وعدم النكوص والرجوع أو المداهنة والتنازل عن شيء من دينه أمام تحديات الشهوات والشبهات، وأمام تحديات الكفار والمنافقين.
وللمسلم الصادق في أصحاب رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» قدوة حسنة، فلقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ما أن يسلم أحدهم حتى يترك كل ماضيه في الجاهلية، وكأنها خلق من جديد.
قال تعالى: ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا ﴾ [الأنعام: ١٢٢]. فماضي الصحابي رضي الله عنه شيء، وحاضره في إسلامه شيء آخر، وذلك بمفارقته وتميزه عن المجتمع الجاهلي من حوله -وإن كان يعيش بين ظهرانيهم ويبيع ويشتري منهم بعقيدته وعبادته وعلاقاته وشؤون حياته في هديه وسيرته، ولم يقف عند ذلك، بل تبرأ وعادى كل أصنام الجاهلية وأوثانها ومعتقداتها وعاداتها بل أهلها، كل ذلك على منهاج النبوة، فكان لسان حاله ومقاله يقول للجاهلية وأهلها : ﴿ لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: ٦].
فتميزه ومفارقته الواضحة كانت - بتوفيق الله - سببًا في ألا يكون لماضيه في الجاهلية من معتقدات وعبادات وشهوات، ولا لأهلها بإغراءاتهم ومساوماتهم وتعذيبهم وسجنهم؛ أثر عليه في إسلامه فهو ثابت على دينه كالجبل الأشم لا يتزعزع عنه، ولا يتنازل عن شيء منه.
مراجع
- انظر (موسوعة نضرة النعيم) الحاشية (٧) (١٥٣٦/٤).
- المأزم: المضيق وكل طريق ضيق بين جبلين يقال له مأزم، انظر (ازم) من (مختار الصحاح).
- أي صلاة المغرب والعشاء.
- جبل بين مكة ومنى وهو على يمين الداخل منها إلى مكة.
- (معالم التنزيل) للبغوي (١ / ١٨٤ - ١٨٥) طبعة دار طيبة.
- شنق: ضم، وضيق.
- الحبال جمع حبل، وهو التل اللطيف من الرمل الضخم.
- رواه مسلم رقم (۱۲۱۸)
- (الحلية) (٣٠٢/١٠).
- رواه البخاري رقم ( ٦٤٠٧) ومسلم رقم (٧٧٩).
- رواه مسلم رقم (٢٦٧٦).
- رواه البخاري رقم (٦٦٠) ومسلم رقم (١٠٣١).
- رواه البيهقي رقم (٥٥٨) ، وحسنه الألباني في (الصحيح) رقم (۱۲۱۱).
- (مجموع الفتاوى) (١٥/ ١٩) وما بعدها.
- (مدارج السالكين) (٥٧٢/٢-٥٧٣).
- رواه البخاري رقم (١٦٨٤).
- (حاشية ابن القيم على سنن أبي داود) (١٤٦/٥).
- (اقتضاء الصراط المستقيم) (٥٤٧/١-٥٤٨).
أكتب تعليقك هتا