البيت العتيق هو قبلة المسلمين، ومهوى أفئدتهم، ومثابة لهم، يثوبون إليه كلما رجعوا إلى ديارهم، فلا يقضون وطرهم منه أبدًا.
قد امتلأت قلوبهم له محبة ،وتعظيما، وشوقا وحنينا، ومهابة وإجلالاً؛ ذلك أنه بيت ربهم جل جلاله.
تعظيم البيت العتيق وحرمته:
لقد وصف الله بيته الحرام بأوصاف عدة بيانًا لعظمته، وتذكيرا بحرمته، وتفخيا لشرفه وشأنه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتِ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ وَايَتُ بَيِّنَتُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ عَامِنَا ﴾ [آل عمران: ٩٦-٩٧].
يقول ابن القيم -رحمه الله - عن هذه الآية: (فوصفه بخمس صفات):
أحدها: أنه أسبق بيوت العالم وَضْعًا في الأرض.
الثاني : أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق.
الثالث: أنه هدى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى هو نفس الهدى.
الرابع : ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية.
الخامس: الأمن الحاصل لداخله) (۱).
ومن تعظيم الله جل وعلا لبيته العتيق أن جعله قياما للناس، فقيام مصالحهم الدينية والدنيوية منوط بتعظيم هذا البيت العتيق وعمارته بالحج والعمرة قال تعالى: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيمَا لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة: ٩٧].
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية: (وجعل الله بيته الحرام قيامًا للناس، فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فلو ترك الناس كلهم الحج سنة لخرت السماء على الأرض، هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس ، فالبيت الحرام قيام العالم، فلا يزال قيامًا ما دام محجوجًا) (۲).
وتعظيم الكعبة من تعظيم الله جل وعلا ودليل على تقواه، إذ الكعبة أجل وأعظم شعائر الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَمَن يُعَظِم شَعَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: ٣٢].
وتعظيمها يكون بأداء ما شرع الله جل وعلا فيها من عبادة على أكمل وجه، مع اجتناب المعاصي والذنوب فيها وفي كنفها. وقد عظم النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» الكعبة بقوله وفعله؛ أما قوله فقد قال النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» لما رأى الكعبة (ما أعظمك)(3)، وأمر أمته بتعظيم الكعبة وذلك باتخاذها قبلة لهم في صلاتهم أينما كانوا، وحثهم على المتابعة في إعمارها بالحج والعمرة والطواف.
أما فعله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» فقد طهر الكعبة من رجس الأوثان، وعلم أمته كيف يطاف بها فقال عليه الصلاة والسلام: (لتأخذوا مناسككم) (4) ، وبين موضع التقبيل منها والاستلام (5)، وأما عداها من التبرك بالكعبة والتمسح بجدرها فهي بدعة ليست من الدين في شيء.
يقول شيخ الإسلام عن عظمة الكعبة المشرفة: (وكذلك ما خص الله به الكعبة البيت الحرام من حين بناه إبراهيم وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقيره وانجذاب القلوب إليه، ومن المعلوم إن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم، ثم لا يلبث أن ينهدم ويُهان.
والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع، ليس عنده ما تشتهيه الأنفس من البساتين والمياه وغيرها، ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء، ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس، بل كثيرًا ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله، ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوي إليه ما لا يعلمه إلا الله.
وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض، حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة، فيكونون هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس، وهذا مما يُعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر وقوى نفوسهم وأبدانهم)(6).
وقال محمد رشید رضا رحمه الله تعالى يصف مشهد رؤية الكعبة المشرفة: (حتى إذا اكتحلت عينه برؤية الكعبة المعظمة، وراع القلب ما جلَّلَها من المهابة والعظمة، تُذكِّر أنها أول بيت وضع للناس وهدى للعالمين، وخصه الله بالآيات البينات الباقية على بقايا الأيام والسنين)(7).
المراجع
- (بدائع الفوائد) (٢/ ٤٦١) طبعة دار عالم الفوائد.
- (مفتاح دار السعادة) (٢/ ٨٦٨) طبعة دار عالم الفوائد.
رواه الترمذي رقم (۲۰۳۲) قال الألباني: حسن صحيح.
رواه مسلم رقم (۱۲۹۷)
أما (الملتزم) وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة فهذا الموضع فيه خلاف بين أهل العلم في التزامه والدعاء عنده وسيرد ذكره إن شاء الله .
(الصفدية) الشيخ الإسلام ابن تيمية (١ / ٢٢٠).
نقلاً من (الشوق والحنين إلى الحرمين تأليف محمد بن موسى الشريف ص .(۳۳-۳۲)
أكتب تعليقك هتا