عن ابن عباس رضي الله عنه : ( أن أسامة بن زيد رضي الله عنه كان ردف النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى قال فكلاهما قالا : لم ينزل النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» يلبي حتى رمى جمرة العقبة)(۱).
فقد روى البخاري بسنده عن الزهري «أن النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة، رافعًا يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي . عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم ينصرف ولا يقف عندها، قال الزهري: سمعت سالم بن عبد الله يحدث مثل هذا عن أبيه عن النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» وكان ابن عمر يفعله»(2).
هكذا رمى النبي«صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ، و دعا ، وهكذا يفعل الحجاج اقتداء به وليس رمي الجمار رميًا للشيطان نفسه، وإنما المعنى رجم له حيث إن ذلك يغيظه ورمي الجمار سنة متبعة، وأثر يقتفى، وهي من إرث أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام جدده نبينا محمد «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» .
وأصل مشروعية الرمي ما ذكره الله جل وعلا في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: ۱۰۱-۱۰۲].
فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لما أتى إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، قال ابن عباس : فالشيطان ترجمون وملة أبيكم إبراهيم تتبعون)(3).
يقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: (فإذا رميت الجمار فاقصد بذلك الانقياد للأمر، وإظهار الرق والعبودية ومجرد الامتثال من غير حظ النفس) (4).
ومع التسليم لله جل وعلا، واتباع النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في رمي الجمرات، إلا أن هناك حكما وعبرا نسعى لتلمسها لعل منها: (1) التذكير بعداوة الشيطان وإصراره على إغواء بني آدم، وعدم يأسه من ذلك، قال تعالى حاكيًا عن إبليس : ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَاتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَنِهِمْ وَعَن شَمَابِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَكِرِينَ ﴾ [الأعراف: ١٦-١٧].
ومن الأدلة الواقعية على عداوة الشيطان وعدم يأسه من إغواء بني آدم، ما قام به من محاولة ثني أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الامتثال لأمر الله جل وعلا في ذبح ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام مرات عدة، ورغم علمه بقوة إيمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد خبره في مواقف عدة لم ييأس منه، بل كان في كل مرة يأتيه بشكل وزي آخر وأسلوب مغاير وإبراهيم عليه الصلاة والسلام بتوفيق الله ثم بقوة إيمانه وبصيرته يعرف أنه الشيطان، فكان يرميه في كل مرة.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (فذكر الله الذي شُرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الممتحنة: ٤] الآية، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: ٦]، وفي قوله منكرًا على من والاه ﴿ أَفَتَتَخِذُونَهُ، وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوا ﴾ [الكهف:٥٠] الآية، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة)(6).
وهكذا المؤمن يجب عليه أن يعلم أن شياطين الجن والإنس لن ييأسوا من محاولة إغوائه ما دامت روحه تسري في جسده، وسيأتونه بشهوات وشبهات وبحبائل ومصائد ،شتى، ولكن يجب عليه في المقابل أن يستعين بالله حقا ويتوكل عليه صدقًا، ويحذر كل الحذر من مكائد شياطين الجن والإنس وأن يجاهد نفسه في ذلك، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: ٦٩] .
مراجع
- رواه البخاري رقم (١٦٨٦-١٦٨٧).
- رواه البخاري رقم (١٧٥٣).
- رواه الحاكم في مستدركه رقم (۱۷۱۳) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب).
- (مختصر منهاج القاصدين) ص (٥٥).
- (تيسير الكريم الرحمن ) ص (٢٨٦) طبعة مؤسسة الرسالة.
- (أضواء البيان) (٣٤١/٥).
- ارجع إلى موضوع (السعي بين الصفا والمروة ص (۱۰۳) ففيه حديث عن (الافتقار إلى الله جل وعلا). و(يوم عرفة) ص (۱۲۳) ففيه حديث عن التضرع إلى الله جل وعلا).
أكتب تعليقك هتا