رحم الله ابن الجوزي إذ كان يقول بعد انتصاف الشهر الفضيل ومقاربته على الرحيل :
" أيها الناس إن شهركم هذا قد انتصف، فهل فيكم من قهـر نفسه وانتصف.
وهل فيكم من قـام فيه بما عرف،
وهل تشوقت هممكم إلى نيل الشرف،
أيـها المحسن فيما مضى منه دُم،
وأيـها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولُم ..
إذا خسرت في هذا الشهر متى تربح، وإذا لم تسافر فيه نحــــــو الفوائد فمتى تبرح ... "
وفي الاستقبال والوداع ( في الجذور ) ، أنقلكم قليلاً إلى أجواء دمشق في العهد الوطني وأواخــر عهد الخلافــة العثمانية :
كان عبد الغني القوتلي ، جد الرئيس الراحل شكري بك القوتلي رحمه الله ، من أعيان ووجهاء مدينة دمشق في القرن التاسع عشر . كان يقيم في داره كل يوم مائدة عامرة للفقراء والمحتاجين ، دون السؤال عن اسمهم وعملهم وظروفهم المعيشية .
ذات يوم في شهر رمضان المبارك جاءه رجل يرتدي معطفا ثميناً "فرو" وجلس مع المحتاجين يتناول طعامه بصمت . نظر إليه صاحب الدار وأمر أحد المساعدين بوضع عشر ليرات ذهبية في معطفه المعلق إلى جانب المائدة ، شرط أن لا يشعر الضيف بهذا الفعل.
استغرب المساعد وقال : "عشر ليرات يابيك ؟ مو كتير ؟"
ابتسم الرجل الدمشقي وأجاب : "اجعلهم عشرين ليرة إذاَ"
حاول المساعد التدخل مرة أخرى وقال : "عشرون ليرة ؟؟"
رده عبد الغني بك وقال : "ارفع المبلغ إلى ثلاثين ليرة اذاَ"
نفذ المساعد ما أُمر به ، وعند الانتهاء من تناول الطعام شعر الضيف بوزن في جيبه ونظر إليه ليرى كيساَ من النقود يحتوي على ثلاثين ليرة ذهبية . لم يصدق عينيه وخرج سريعاَ من البيت.. فأمر عبد الغني القوتلي أحد رجاله بمتابعته عن بعد لمعرفة ماذا سيفعل الرجل بهذا المال .
وصل الضيف إلى لحّام الحي وأخرج أول دفعة وسلمه إياها معتذراَ عن التأخير في تسديد الدين ، ثم اشترى بعض الطعام ، وأعاد نفس التصرف مع السمان وبقية المتاجر ثم وصل إلى بيته فاستقبلته ابنتـــه الصغيرة بالقـــول : " ناطرينك يا أبي ، رح نموت من الجوع ما أكلنا من أيام ."
عرف عبد الغني بك أن الرجل المسكين كان من الأكابر الذين ضاقت بهم الدنيا ومنعه كبرياؤه من مد يده إلى أحد ، وردد قوله الشهير : "ارحمـــــوا عزيزَ قومٍ ذل !" وهو عند بعضهم نصُّ حديث مرفوع .
هذه أخلاق دمشق وأهلنا منذ الأزل بل أخلاق شعوبنا الإسلامية جميعا ، ليس فقط في رمضان بل في كل عصر وكل وقت . ولكن أعمال الخير والبرَّ والإحسان كانت تتزايد في رمضان ، وفي العشر الأواخـــر من رمضام ، كانت كثير من شخصيات الشام وكذلك مصـر وسائر البلاد الإسلامية ، تتسابق إلى العطاء والبذل في العشر الأواخر وتمنح العائلات المتعففة ما تستطيع لتعينهم على قضاء عيد سعيد هانئ حقا .
وداع رمضان يكون بالبذل والتضحية والصدقات ، ومساعدة الآخرين على استقبال عيد الفطر السعيد .
لذلك يؤثــــر عن السلف أنهم كانوا يودِّعون رمضان بالبكاء والدموع ،وكان أكثــرهــم يقــول :
ﻛﻴﻒ ﻻ ﺗﺠﺮﻱ ﻟﻠﻤﺆﻣﻦ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺍﻕ ﺭﻣﻀﺎﻥ ﺩﻣﻮﻉُ .. ﻭﻫﻮ ﻻ ﻳﺪﺭﻱ ﻫﻞ ﺑﻘﻲ ﻟﻪ ﻓﻲ عمره ﺇﻟﻴﻪ ﺭُﺟﻮﻉ!!
( رَ : ﻟﻄﺎﺋﻒ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ٢١٧ ) .
وأخيـــراً ، أستعير كلمات للشيخ عبد الحكيم الأنيس ( من مقال له في وداع رمضان منشور في موقع الألوكـــــــــــة ) :
إن الدنيا مثل رمضان، تمضي بلذائذها وشهواتها، وتعبها ونصبها، وينسى العباد ذلك، ولكنهم يجدون ما قدموا مدخرا لهم، إنْ خيرا فخير، وإن شرا فشر، ونحن في أخريات شهرنا سلوا من جاهدوا نفوسهم، واصطبروها على طاعة الله تعالى في الأيام الماضية، فأضنوا أجسادهم، وأمضوا نهارهم في أعمالهم، وفي بر والديهم، وصلة أرحامهم، ونفع إخوانهم رغم صيامهم، وأسهروا ليلهم في التهجد والمناجاة، والدعاء والاستغفار، سلوهم الآن عن تعبهم وسهرهم، وعن جوعهم وعطشهم، تجدوا أنهم قد نسوا ذلك، ولكن كتب في صحائفهم أنهم صاموا فحفظوا الصيام، وقاموا فأحسنوا القيام، وعملوا أعمالا صالحة كثيرة امتلأت بها صحفهم في رمضان، ولسوف يجدون عقبى ذلك غدا في قبورهم وعند نشرهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.
وسلوا الذين قضوا رمضان في النوم والبطالة، ورفهوا عن أنفسهم بأنواع المحرمات، وتفكهوا بما يعرض في الفضائيات، وضحكوا كثيرا من مشاهد السخرية بدين الله تعالى، وإنْ صلى أحدهم صلى ثقيلا، وإن قرأ القرآن ملّ منه سريعا، وما مضت عليهم الليالي السالفة إلا وقد أخذوا من الرفاهية أكثرها، ومن الضحك والمتعة أنواعها، سلوهم الآن عن أنواع الرفاهية والمتع التي تمتعوا بها لن تجدوا عندهم منها شيئا يذكر، وبقيت الأوزار تثقل كواهلهم، وتسود صحائفهم، ولا نجاة لهم إلا بتوبة عاجلة قبل أن يحال بينهم وبين التوبة.
أكتب تعليقك هتا