وكالة البيارق الإعلامية
التجاهل هو إحدى التجارب التي نعيشها بشكل شبه يومي نحن البشر، سواء كان ذلك في سياقات العائلة أو الأصدقاء أو العمل، فهي ليست حكرا على شخص دون آخر. وربما نمارسها نحن تجاه الآخرين، سواء شعرنا بالضيق من الحديث مع شخص ما، أو أردنا إيقاف بعض تصرفاته السلبية مثل التطفل والسخرية وغيرها. إلا أن البشر يختلفون في مدى تأثرهم وكيفية تعاملهم مع التجاهل، فبعضهم يتأثر بصورة أكبر من البعض الآخر، كما أن هناك أشخاصا قد يعمدون لمقاربة هذا التجاهل بطرق غير مباشرة، بينما يلجأ البعض للمواجهة المباشرة.
على كل حال، يبدو المرور بتجربة التجاهل قاسيا، فحين يتم تجاهلنا، نتخيل أننا غير مقدّرين بوصفنا أشخاصا وليس أفكارا أو مشاعر أو سلوكات فقط، فالتجاهل يعني الانصراف عن الشخص وعدم الالتفات إليه، وهذا قد يكون أكثر قسوة حتى من الكراهية بحد ذاتها، كما أن التجاهل يجعلك فريسة للاجترار لأنك حائر دون جواب أو تفسير، على عكس الخلافات التي قد تتركك مع بعض الأفكار التي تبرر ما حدث.
في هذا المقال، نحاول استكشاف الأسباب التي قد تدفع شخصا لتجاهل آخر، كما نوضح بعض الخطوات العملية التي تساعدك على التعامل مع تجربة التجاهل بأفضل صورة ممكنة.
ما ينبغي أن تعرفه عن التجاهل
إن حاجتنا لقبول الآخرين واهتمامهم حاجة أصيلة لدى الإنسان، ولها أساس بيولوجي ونفسي قوي مثبت في العديد من الدراسات. وحين يشعر الإنسان بأنه لا يحظى بالانتباه والاهتمام الكافي، فقد يصل به الأمر على المدى الطويل إلى تأثر صحته الجسدية ومناعته وعاداته اليومية مثل النوم أو حتى أن يميل ليكون عدوانيّا بشكل أكبر(1)،
ومن الجدير بالذكر هنا أن الشعور ببرود الآخرين وفتورهم في تعاملهم يُعدّ أقسى على النفس من كراهيتهم، كما يقول الاقتباس المشهور: "نقيض الحب ليس الكراهية، وإنما اللامبالاة"، ويقول جورج برنارد شو: "إن أسوأ ذنب يمكن أن نفعله تجاه الآخرين هو ليس كرههم، بل ألا نكترث بهم. فهذا هو جوهر اللاإنسانية". كما أن التجاهل يهز ثقة الإنسان بذاته، ويخلق مشاعر جديدة من فقدان السيطرة والشعور بعدم استحقاق التقدير والاهتمام(2).
بالإضافة إلى ذلك، من المعروف في علم نفس العلاقات أن العلاقات المتكافئة والتي يهتم فيها الشخصان ببعضهما بعضا دون ميل الكفة بشكل كبير لأحدهما تجاه الآخر، هي العلاقات الأكثر صحة وقدرة على الاستمرار، وجعل أصحابها أكثر سعادة ورضا(3).
في ظل هذا كله، لا يبدو الشعور بالغضب أو الحيرة أو السوء لدى حدوث التجاهل أمرا غير طبيعي أو غير مبرر. فمن الطبيعي جدا أن تشعر بذلك حين يتجاهلك أحدهم، بل من المهم ذلك في بعض الأحيان. فالتجاهل فعل ثقيل على النفس، وإذا كان مزمنا أو مارسه شخص عزيز عليك، أصبح عبؤه أكبر وأصعب.
يمكن للتجاهل أن يأخذ أشكالا مختلفة، تحديدا بعد أن اجتاحت السوشيال ميديا وطرق التواصل التكنولوجية حياتنا. فقد يكون التجاهل على أرض الواقع، وقد يكون عبر وسيلة افتراضية (كالفيسبوك أو الواتساب)، وقد يكون مباشرا واضحا أو غير مباشر (فيما يُعرف بالعدوانية السلبية أو الخفية "Passive Aggression")، ومع دخول التقنية إلى عالمنا، أصبح النوع الثاني أكثر حضورا؛ ما جعلنا أكثر حيرة في بعض المواقف، حيث لا نعرف إن كان ما حدث تجاهلا أم لا.
ومن جهة أخرى، قد يتجاهل شخصٌ ما آخرَ بعدم الرد عليه أبدا، وقد يتجاهله بالإبطاء في الرد بشكل كبير، أو قد لا يكون الرد حقيقيا أو أصيلا بما يكفي. وهذه كلها أشكال متنوعة من المفهوم العامّ للتجاهل.
من المهم إدراك دور التكنولوجيا في تعميق مشكلات التواصل الإنسانية، بما فيها مشكلة التجاهل. فكل شكل من أشكال التواصل يحمل في طياته إمكانات جديدة، وقد تؤدي هذه الإمكانات إلى احتمالات أفضل أو أسوأ بحسب استخدامها. ورغم أن الدراسات التي تبحث اختلاف أشكال التواصل (تحديدا مقارنة السوشيال ميديا بالتواصل الواقعي) ما زالت في بداياتها، فإنها تُبيّن فعلا أن أشكال التواصل الافتراضية أكثر إشكالا من التواصل الواقعي(4). لا تتوقف المشكلة هنا فقط، فالبشر يعتقدون أنهم يستطيعون التواصل بفعالية مع الآخرين عبر هذه الوسائل (رغم أن الأبحاث تثبت العكس).
وقد وجد بحثٌ حديث نُشر السنة الماضية (2021) أن التواصل عبر النصوص (Texting) هو أحد أكثر أشكال التواصل عُرضة لسوء الفهم ولا يحمل نفس الشعور بالتواصل كما في الاتصالات الصوتية أو المرئية، وهذه الأخيرة بدورها ليست كالتواصل على أرض الواقع. ووجد أن عدم إدراك محددات هذه الوسائل وآثارها السلبية على العلاقات يؤدي لتصورات خاطئة عن ماهية التواصل الإنساني والطرق المثلى له؛ ما يؤثر بدوره على العلاقات على المدى الطويل(5)(6).
ومن الجدير بالذكر أن معظم الشكاوى من التجاهل تأتي من تواصل ما وراء الشاشات أكثر من الواقع، ولا ننسى أن منصات التواصل توفر العديد من الخيارات التي تعزز من هذا السلوك وتسهّله (كما تسهل التواصل بحد ذاته من جهة أخرى)، وهذا له اعتبارات وأسباب عديدة، ويمكن أن يرشدنا لطريقة التعامل المثلى مع التجاهل كما سنذكر في فقرة الخطوات العملية.
لماذا يتجاهلني الآخرون؟
تتنوع الأسباب التي يمكن أن تكون وراء سلوك التجاهل، ولا يمكن لنا أن نبتّ بكل حالة ونحصيها جميعا في مقال واحد كهذا. يمكن أن يكون السبب هو مجرد افتراض لديك بأن الآخر يتجاهلك وهو ليس كذلك، ويمكن أن يكون التجاهل تجليا للتلاعب والابتزاز العاطفي من قبل شخص نرجسي، أو إستراتيجية لكي يحظى هو بالاهتمام منك.
الأسباب الآتية هي الأسباب الأكثر شيوعا في أغلب -وليس كل- حالات التجاهل المزمنة، ومن الممكن أن يوجد أكثر من سبب منها في الوقت نفسه بطبيعة الحال:
هو ليس تجاهلا، وإنما افتراض متسرع من قبل الشخص الأول بسبب عوامل معينة، كوجود قلق مَرَضي، أو تفكير زائد، أو نمط تعلق قلق، أو نرجسية، أو حاجة ملحّة للحب والاهتمام، أو توقّعات غير منطقية من الشخص الآخر.
التمركز حول الذات والتحدث بشكل كبير دون الاستماع للآخر؛ ما ينفّر الآخرين منك ويجعلهم يتجاهلونك، لأنهم يشعرون بعدم تكافؤ العلاقة، أو أنهم يعطونك أكثر بكثير مما يأخذون منك. (كيف تصبح مستمعا جيدا للآخرين؟ إليك نصائح علماء النفس).
التدخّل المبالغ فيه بشؤون الآخرين والتطفل عليهم والفضول الزائد؛ ما يدفعهم لحماية أنفسهم من خلال تجاهلك.
وجود نمط تعلّق تجنّبي أو شخصية انطوائية لا تتحمّل التواصل الاجتماعي إلا بوتيرة منخفضة لدى الشخص الذي يقوم بالتجاهل والتجنب، فيشعر الشخص أحيانا بتهديد مساحته الشخصية فيتجنب الآخرين.
وجود شخصية نرجسية ومتلاعبة واستغلالية لدى الشخص الذي يقوم بعملية التجاهل؛ ما يدفعه لتجاهل الآخرين إلا في حال وجود مصلحة أو فائدة يرجوها منهم.
كيف أتعامل مع مَن يتجاهلني؟
- حاول تحليل الموقف بشكل موضوعي
ربما تساعدك الأسئلة الآتية على القيام بهذا الأمر: هل حدث هذا التجاهل مرة أم أكثر من قِبَل الشخص نفسه؟ هل حدث موقف مشابه من أشخاص آخرين؟ هل هناك سبب أو هل يمر الشخص الآخر بظرف ما يمكن أن نبرر به تجاهله لنا بعض الشيء
ماذا يعني لنا هذا الشخص؟ وما طبيعة علاقتنا به؟ هل نمتلك توقعات عقلانية ومنطقية من شكل التواصل معه؟ هل من الممكن أن أكون قد ضايقته بأمر ما أو أخطأت بحقه؟
- ارسم حدودك وحدّد حاجاتك ودوافع تواصلك مع الآخرين
إن الشعور بتجاهل الآخرين هي تجربة إنسانية مؤلمة، لكنها قد تساعدنا على فهم أنفسنا واحتياجاتها بشكل أفضل. ربما نكتشف من التجربة أن شخصياتنا توافقية بشكل أكبر من اللازم (إذا برّرنا لهم كل شيء يفعلونه لكي لا نواجههم)، وربما نكتشف أنّنا نحتاج إلى مستوى معيّن من الاهتمام وشكل معيّن من التواصل علينا أن نكون أكثر وضوحا في التعبير عنه.
من المهم أن نستثمر هذه المواقف لمعرفة أنفسنا بشكل أفضل، ونستخدم هذه المعرفة في تحديد شكل العلاقات والتواصل الذي يناسبنا. ولا تخجل من وضع حدود مع الآخرين في حال تكرر مثل هذا السلوك ولم تستطع تحمّل ذلك.
- ابتعد عن الأفعال المدفوعة بالانفعال
من الأمثلة السيئة على طرق التعامل مع التجاهل: الحديث والتذمر عن الموقف أو الشخص المتجاهِل للآخرين قبل التأمل في الموقف والتأكد منه بشكل متذمر أو سيئ، إرسال رسائل منفعلة أو الرد بشكل يسيء للشخص المتجاهِل، ممارسة الاجترار عن طريق المبالغة في تحليل الموقف والتفكير به طوال الوقت بدل إعطاء فسحة من الوقت والانشغال بما ينفع.
- عبّر عن مشاعرك وأفكارك للشخص الآخر بهدوء
التواصل هي الكلمة المفتاحية للعلاقات الناجحة في حياتنا نحن البشر. ليس هناك مفهوم أهم من التواصل في إدارة العلاقات، سواء كان ذلك في الصداقة أو العائلة أو العلاقات الحميمية أو حتى علاقات الزمالة والعمل.
لا تخجل من التعبير عن مشاعرك للشخص الآخر، لكن حاول فعل ذلك دون انفعال زائد، بنبرة صوت هادئة وبالتركيز على مشاعرك وحاجاتك، لا على اتهام الشخص الآخر بأنه أخطأ أو على سلوكه هو. مثلا، بدلا من أن تقول:
من المهم أيضا أن تعتذر في حال شعرتَ أنك أخطأتَ بحقه في أمر ما، تخلية المشاعر بينكما عبر الكلام هو أحد الطرق الممتازة في حل الإشكالات.
حاول أن يكون الكلام وجها لوجه، لأن الطرق الافتراضية فيها الكثير مما يمنع التواصل الإنساني الأصيل، وأهم ذلك هو لغة الجسد والشعور بالمساحة الحقيقية التي تجمعكما.
- حاول أن تفهم احتياجات الآخرين واختلافاتهم عنك
ربما يخطئ البشر أحيانا بحقنا لأنهم بشر، نحن نخطئ مع غيرنا كذلك، وما يجعلنا ننجو هو تفهمنا لبعضنا بعضا. التغافل والتغافر هما طريقان يمكن لنا أن نحقق جزءا مهمّا من إنسانيتنا عبرهما، فلا ضير من أن تمنح صديقك أو شريكك بعض الوقت والمساحة في حال شعرتَ ببعض التجاهل من قبله، خصوصا إذا لم يكن ذلك نمطا عامّا من السلوك لديه.
إحدى أهم علامات النضج النفسي هي القدرة على فهم الآخرين والتفكير بهم باعتبارهم ذوات حرة وفاعلة ومستقلة عنا. ربما يختلف نمط تعلقك عن زوجتك، وربما تختلف طبيعة شخصية صديقك عنك، فهو انطوائي وأنت انبساطي (اجتماعي)؛ ما يجعله يتجنبك لا رغبة بذلك بل لأنه لا يستطيع التصرف عكس طبيعته بشكل دائم.
التفهم والتعاطف ليس هامشا في هذه المواقف، بل قد يساعدنا على استثمار هذه المواقف بشكل إيجابي لتطوير العلاقة وتعميق مستوى التفهم فيها. تنمو العلاقات بالصعوبات والتحديات، وطريق تطورها ليس خطيّا بالضرورة.
هناك الكثير من الخطابات الحديثة التي لا تألو جهدا في جعلك تفكر في نطاق نفسك فقط، وكأن الآخرين موجودون من أجلك فقط، لكن النمو والنضج الحقيقي يكمن في أن يتسع قلبك للآخرين، دون أن تخسر نفسك بالطبع.
أكتب تعليقك هتا