أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا كما اتفقنا في الحلقة السابقة (( رثــاء)) نبرُّ بوعدنا ونحدثكم اليوم عن نماذج من رثاء الزوجات عند العربي - قديما وحديثا - في شعره ، والشعر ديوان العربي ونبضه ومرآة مشاعره وعواطفه !!! الزوجة من اقرب الناس الى قلب زوجها ، فكيف اذا ماتت وكان زوجها شاعرا رقيقا ؟! كيف يصوغ مشاعره ويتفاعل مع الموقف الذي لا لقاء بعده ؟! أول الأمثلة في مقالتنا هو الشاعر مسلم بن الوليد وكان يسمى صريع الغواني ،، الذي يستبد به الحزن الشديد لموت زوجته فكاد يصرعه ليكون صريع الزوجة ، ويعزف عن كثير من متع الحياة ولذائذها، فأقسم عليه بعض إخوانه أن يشرب الخمر حتى ينسى مأساته، فرفض وأصرَّ على الرفض ، قائلا:  بكـاء وكـأس كـيـف يتفقـــــــــان سـبـيـلاهما فى القلب مختلفان دعـانـي وإفـراطَ البكـــــــاء فإنني أرى الـيـوم فيه غير ما تريان غدت والثرى أولى بها من وليها إلـى مـنـزل نـاء لعينك دان فلا حزن حتى تذرف العين ماءها وتـحـتـرق الأحـشاء للخفقان و هل سمعتم بمأساة الشاعر العباسي الحمصي : عبد السلام بن رغبان المشهور فى تاريخ الأدب بلقب (ديك الجن)؟ لقد تزوج جارية له تسمى (ورد) ، وكان مدنفا بحبها لجمالها الخارق. فتركها وسافر عنها مدة من الزمن، فوشى بها أحد أقربائه ( أخوه أو ابن عمه أو ... ) ، وأبلغ ديك الجن أنها خانته فى غيبته ، فقتلها ، وبعدها ظهرت براءتها، فعاش يبكيها أحر البكاء وأمرَّه، ومما قاله فيها:  رويت من دمها الثرى، ولطالما= روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيهـا قد بات سيفى فى مجال وشاحها= ومدامعي تجرى على خديهــا فوحق نعليها وما وطئ الحصى=شيءٌ أعز علي من نعليهـــــــــــا ماكان قتليها لاني لم أكـــــــــن=أبكي اذا سقط الذباب عليهـــــــــــا لكن ضننتُ على العيون بحسنها=وأنفتُ من نظر الحسود اليهـا ويخاطب زوجته الثاوية تحت أطباق الثرى قائلا: أَساكِنَ حفرةٍ وقَرارِ لَحْدِ * مفارِقَ خُلَّةٍ من بَعْدِ عَهْدِ أَجِبْني إنْ قَدرْتَ على جوابي * بحَقِّ الودِّ كَيْفَ ظَلَلتَ بَعْدِي وأَيْنَ حَلَلْتَ بَعْدَ حلُولِ قَلْبي * وأَحْشائي وأَضلاعي وكَبْدي أَمَا واللَّهِ لو عايَنْتَ وَجْدي * إذا اسْتَعْبَرْتُ في الظَّلْماءِ وَحْدي وَجَدَّ تَنَفُّسِي وعَلا زَفيري * وفاضَتْ عَبْرَتي في صَحْنِ خَدِّي إذَنْ لعَلِمْتَ أَنِّي عن قَريبٍ * سَتُحْفَرُ حُفْرَتي ويُشَقُّ لَحْدي يَقولُ: قَتَلْتَها سَفَهاً وجَهْلاً * وتبْكيها بكاءً ليس يُجْدي كصَّيادِ الطُّيورِ لـه انتحابٌ * عليها وهو يَذْبَحُها بِحَدِّ وَيَعْذلُني السَّفيهُ على بُكائي * كأَنِّي مُبْتَلًى بالحُزنِ وَحْدي ولنترك ديك الجن ومأساته الباكية التى صنعها بطيشه وتسرّعه وسوء ظنه ، ولنصل فى ديوان العرب الى القرن السابع الهجري لنطالع أهم القصائد وأصدقها فى رثاء الزوجة وهى قصيدة الشاعر النجرانى القاسم بن على بن هتيمل الضمدي . ويسجل الشاعر في قصيدته يوم وفاة زوجته وحملها الى مثواها الأخير، ويتمنى لو كُفنت بجلده ، ودُفنت فى ضلوعه يقول الشاعر المفجوع :  يَؤُوبُ الغَائِبُونَ وَكُلُّ مَيْتٍ يُشَيَّعَ مَا لِغَيْبَتِهِ إيَابُ :: بِنَفْسِي عَصْرَ يَوْمِ السَّبْتِ نَعْشٌ تَدَاوَلُهُ المَنَاكِبُ والرِّقَابُ :: تُسَلُّ إلىَ الحُفَيْرةِ مِنْهُ شَمْسٌ تَبَلَّجَ فِي جَوَانِبِهَا شِهَابُ :: مِنَ الخَفِرَاتِ يُخْفِي اللَّيلُ مِنْهَا إذَا مَا جَنَّ مَا لاَ يُسْتَرَابُ :: فَفِي الوَقَدَاتِ كَانُونٌ إذَا مَا لَهَوْتُ بِهَا وَفِي الشَّتَوَاتِ آبُ :: مُخَدَّرَةٌ يَطِيبُ الطِّيْبُ مِنْهَا وَتَعْبِقُ مِنْ تَرائبِهَـــا السَّــــحـــَابُ ويعز على الشاعر أن يوسد هذا الجمال التراب، وأن يهال على وجه زوجته الحبيبة وخدها الأسيل وعينيها الساجيتين، وهي التي عاشت رقيقة غضة تتدفق بالصبا الغض والشباب الطري ، ومن هذه المفارقة الفادحة بين غضاضة هذا الجمال ورقته وبين ظلمة القبر ووحشته ، وقسوة التراب يهز الشاعر فينا مشاعر الحزن والأسى، يقول الضمدي :  أوسدك التراب وكنت أحفــــــى * عليـــــــه أن يباشره التراب فما فعل الثرى ويــــــــد الليالي * بجسم كــــانت تؤلمه الثياب ومـــا فعلت محاجرك السواجي * ومـــــــا فعلت ثناياكالعذاب يهون لـــــــــــوعتي الا حساب * عليك من الإله ولاعقـــــاب فما خلد الفــــــــواطم فيه قديما * ولا سكنت سكينةوالـــرباب وتموت زوجة الوزير محمد بن عبد الملك الزيات مخلفة له طفلا فى الثامنة من عمره، ويهز الشاعر بحزنه أوتار قلوبنا من خلال مأساة هذا الطفل الصغير ، يقول الشاعر:  الا منرأى الطفل المفارق امه...عيدالكرى، عيناه تنسكبان رأى كل أم وابنها غير امه...يبيتان تحت الليلينتجيان وبات وحيدا في الفراش تجنه....لابل قلب دائمالخفقان الا ان سجلا واحدا ان هرقته....من الدمع او سجلين قد شفياني فلا تلحياني ان بكيت فأنما....اداوي بهذا الدمع ما تريــــــــــــــــــــان ولجرير الشاعر الأموي قصيدة فى رثاء زوجته أم حرزة يحيي فيها جمالها وخُلـُقها الرفيع ، ويدعو لها بالرحمة ، ومن أبيات هذه القصيدة ما ذكرناه في الحلقة السابقة :  ولهت قلبي إذ علتني كبـرة وذوو التمائم من بنيك صغار صلى الملائكة الذين تخيروا والطيبون عليـك والأبـرار لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ليل يكـر عليهـمُ ونـــهـــــــــارُ وفى هذه القصيدة يظهر ملمحان موضوعيان: الأول شعور الشاعر بالحرج لرثائه أنثى معللاً ذلك بالحياء ، فيقول فى البيت السابق مباشرة.  لولا الحياءُ لهاجني استعـبارُ === ولزرت قبركِ ، والحبيبُ يـُـزارُ وكانت العرب تعيب رثاء الزوجات خاصـة والأنثى عامةً ،،، أما الملمح الموضوعي الثانىفهو أنه اتخذ من هذه القصيدة فى رثاء زوجته منطلقا لهجاء الفرزدق الذى يقال أنه عاب أم حرزة وأظهر الشماتة فى جرير لموتها. يقول جرير:  أفأم حرزة يا فرزدق عبتمُو === غَضَبَ المليكُ عليكم القهارُ ولننتقل مع الزمن الى العصر الحديث لنرى الشاعر السعودي محمد بن عبد الله بن بُليهد ابن قرية غِسلة بغرب الرياض تموت أحب زوجاته إليه فى فبراير سنة 1933 فيحزن عليها حزنا شديدا ، ويبكي عليها بكاء مراً ،ويرثيها بقصيدة منها الأبيات التالية ، التي يدعو لها ربّه عز وجل فى عالمها الآخر، وتغلب عليه روح الحكمة وهو يصور أحزانه وزهده فى شارع الحياة فيقول :  رعاك الله بعدي من فقيد= عزيز لا يباع ولا يسامُ فمالي بعد رحلتكم مرادٌ = بتلك الدار يذكر أو مـرامُ وفى سنة (1991) م توفيت زوجة الشاعر أحمد محمد الشامي، ولكنه على شاعريته القادرة يعجز عن رثائها لأن الحزن أخرس قلمه ، وترك البيان للدموع والآهات الحرّى ، وهو ما يحدث لكثيرين من الشعراء عند فقدهم أقرب الناس اليهم ، لكن الشاعر بعد عامين يفيض وجدانه بقصيدة ملتاعة يقول فيها:  أنا الذى ظَلْتُ أبكي الصحب منتحبا = بالشعر لم تنحبس في موقف كلمي بَـعْد الحبيبة مات القول iiوانتحرت= اوزان شعري كأني صرت ذا بكم والآن عزيزي القارئ : هل سمعت بكتاب " أنات حائرة" ؟ إنه الديوان الذى نظمه عزيز أباظة وصدر سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وألف (1943) ، وكل قصائده في رثاء زوجته التى توفاها الله قبل ذلك بعام ، والديوان يكاد يكون ترجمة نفسية للزوجة الحبيبة ، وهو تصوير أمين صادق لأثر هذا الغياب الأبدي فى نفس الشاعر ونفوس الأهل والأحباب . ومن أروع المشاهد التى صورها الشاعر وأشدها تأثيرا في النفس مشهد احتضار الزوجة وكلماتها الأخيرة قبل أن تلقى ربها بساعة أو بعض ساعة ... يقول عزيز أباظة:  خـصَّهـا الله بـامتحـانٍ غلـــــــــــــيظٍ = حـمَلَتْه حـمـلَ الشَّكـور الـمطـيــــــــــق دفعت صدرهـا إلــــــــــــــــــيَّ وألقت = رأسَهـا عـند راعـــــــــــــــدٍ ذي خُفُوق ثـم قـالـت فـي أنَّةٍ تتهــــــــــــــاوَى =أَزِفت سـاعةُ الفراق السحـيــــــــــــــق لا تُرَعْ واحـمـلِ الفجــــــــــــيعة جَلْدًا = لستَ للضعف عـندهـا بخَلـيـــــــــــــــق وأشـارت لطفلةٍ تشهد الهــــــــــــــــو = لَ بقـلـبٍ دامٍ وجَفْنٍ غريــــــــــــــــــق قـالـتِ: ارْعَ الأولادَ، وابقَ كـمـا كُنْـــــ = ـتَ مـثـالَ الأب الـمحـبّ الرفـيــــــــــق ومضت تـنزعُ الـحـيـاة، وتُلْقــــــــــــي = فـي زفـيرٍ آصـارهـا وشهـيــــــــــــــق فـي سنًا لامحٍ وعَرْفٍ ذكــــــــــــــــــيٍّ = وابتسـامٍ عذبٍ ووجهٍ طلـيــــــــــــــــق لـو تـراهـا تقـول قـد مسَّهـا الـبَهْــــــ = ـرُ ، فـمـالـت إلى سُــبـاتٍ رقـيــــــــــــق ووقفـنـا مـروَّعـيـن نُجـيل الطْـــــــــــ = طرفَ بـيـن الـتكذيب والـتصديـــــــــــــق ثـم عُدْنـا للـحق عـانـيـــــــــــن صَرْعَى =مـن مُفـيـقٍ يـهـذي وغـيرِ مُفـيــــــــــق وهناك ديوان آخر اختص برثاء الزوجة هو ديوان " من وحي المرأة " للشاعر عبد الرحمن صدقىالذى كان موت زوجته الشابة المثقفة صدمة عاتية له ، وفيه يصور بعد فراقها عذابه ووحدته فى بيته، ويجتر ذكرياته الطيبة معها.وفى إحدى القصائد يتحدث الشاعر عن المشكلات التى خلفها فقد زوجته ، وهى كما سنرى –غير ما عهده الناس وتعارفوا عليه ،يقول الشاعر عبد الرحمن صدقى :  مماتك في الريعان اصمى مقاتلي = وفقديك من عيشي مثير مشاكلي وكنت الغنى من مشكل بعد مشكل = وعقدات نفس تستديم قلاقلي أدور بعيني كالشريد بلا هوى = ولا منزل مثل الهوى والمنازل رأيت الغواني وهي لهو ومظهر = وأنت مزاج من جميل وكامل ورقة احساس وعفة نظرة = ولفظ وتفكير وحفل فضائل أقول لدهري فيم فيم حرمتني=وكل عزائي كان فيها ونائلي أسائله في كل يوم وليلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة= ولن ينتهي مهمـــــــــا حييت تساؤلـــــــــــــــــــــــــي ويقدم لنا الاستاذ الشيخ عصام العطار نموذجا رائعا من رثاء الزوجات لما استشهدت زوجه" الاستاذة بنان على الطنطاوي " في مدينة أخن على أيدي القتلة الارهابيين ، فقال :  " بنانُ" يا جبهةَ الإسلام داميةً مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍِ "بنان" ياصورة الإخلاص رائعةً ويا مثال الفِدى والنبل والكــــرم عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطنٍٍ ملاحماً من صراع النور والديم الكيد يرصدنا في كل منعطفٍ والمـوت يرقبنا في كل مقتحمِ ولعل من أروع الامثلة في رثاء الزوجة في الشعر الحديث ، بل اروع واعظم واجمل ما كتب نزار قبانى في حياته الشعريه على الاطلاق انها قصيده (بلقيس) التى كتبها عام15/12/1981 ، وفيها  يرثي حبيبته وزوجته ورفيقته السيدة "بلقيس الراوي" التى قتلت في حادث تفجير السفارة العراقية في لبنان ، وهذا الحادث استهدف نزار قبانى لقتله معنويا ولكن نزار اخرج لهم على الاطلاق اجمل كلمات ففى هذه القصيده نراه يشكر قاتِليها ثم يهجوهم ونراه يغازل بلقيس ثم يلومها ثم يشكرها اجمل كلمات قيلت في كل انواع الشعر سواء الغزل ام الهجاء ام الرثاء ام الشكر ماذا اقول في هذه القصيده يكفي قولا انها من اروع ما دبَّج "نزار توفيق قباني" من شعر على الاطلاق ، وأقتطف منها : شُكْرَاً لَكُمْ شُكْرَاً لَكُمْ فحبيبتي قُتِلَتْ وصارَ بوسْعِكُم أن تشربوا كأساً على قبرِ الشهيدة وقصيدتي اغتيلت .. وهَلْ من أُمَّةٍ في الأرضِ .. - إلاَّ نحنُ - تغتالُ القصيدة ؟  بلقيسُ ... كانتْ أجملَ المَلِكَاتِ في تاريخ بابِلْ بلقيسُ .. كانت أطولَ النَخْلاتِ في أرض العراقْ كانتْ إذا تمشي .. ترافقُها طواويسٌ .. وتتبعُها أيائِلْ .. بلقيسُ.. يا وَجَعِي .. ويا وَجَعَ القصيدةِ حين تلمَسُهَا الأناملْ هل يا تُرى .. من بعد شَعْرِكِ سوفَ ترتفعُ السنابلْ ؟ يا نَيْنَوَى الخضراء .. يا غجريَّتي الشقراء .. يا أمواجَ دجلةَ . . تلبسُ في الربيعِ بساقِهِا أحلى الخلاخِلْ .. قتلوكِ يا بلقيسُ .. أيَّةُ أُمَّةٍ عربيةٍ .. تلكَ التي تغتالُ أصواتَ البلابِلْ ؟ أين السَّمَوْأَلُ ؟ والمُهَلْهَلُ ؟ والغطاريفُ الأوائِلْ ؟ فقبائلٌ أَكَلَتْ قبائلْ .. وثعالبٌ قتلتْ ثعالبْ .. وعناكبٌ قتلتْ عناكبْ .. قَسَمَاً بعينيكِ اللتينِ إليهما .. تأوي ملايينُ الكواكبْ .. سأقُولُ ، يا قَمَرِي ، عن العَرَبِ العجائبْ فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ ؟ أم مثلنا التاريخُ  * دراسة للاستاذ جابر قميحة في الموضوع نفسه . دواوين الشعراء المذكورين في متن المقالة : جرير والحطيئة وديك الجن الحمصي ونزار قباني في اعماله الكاملة ، ومجلة الرائد ( تصدر في المانيا ) حيث نشر العطار قصيدته في رثاء الشهيدة " بنان " التي قتلها عناصر من الاستخبارات السورية في مدينة " أخــن " بالمانيا ...

الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا

كما اتفقنا في الحلقة السابقة (( رثــاء)) نبرُّ بوعدنا ونحدثكم اليوم عن نماذج من رثاء الزوجات عند العربي - قديما وحديثا - في شعره ، والشعر ديوان العربي ونبضه ومرآة مشاعره وعواطفه !!!
الزوجة من اقرب الناس الى قلب زوجها ، فكيف اذا ماتت وكان زوجها شاعرا رقيقا ؟!
كيف يصوغ مشاعره ويتفاعل مع الموقف الذي لا لقاء بعده ؟!

أول الأمثلة في مقالتنا هو الشاعر مسلم بن الوليد وكان يسمى صريع الغواني ،، الذي يستبد به الحزن الشديد لموت زوجته فكاد يصرعه ليكون صريع الزوجة ، ويعزف عن كثير من متع الحياة ولذائذها، فأقسم عليه بعض إخوانه أن يشرب الخمر حتى ينسى مأساته، فرفض وأصرَّ على الرفض ، قائلا:

بكـاء وكـأس كـيـف يتفقـــــــــان سـبـيـلاهما فى القلب مختلفان
دعـانـي وإفـراطَ البكـــــــاء فإنني أرى الـيـوم فيه غير ما تريان
غدت والثرى أولى بها من وليها إلـى مـنـزل نـاء لعينك دان
فلا حزن حتى تذرف العين ماءها وتـحـتـرق الأحـشاء للخفقان

و هل سمعتم بمأساة الشاعر العباسي الحمصي : عبد السلام بن رغبان المشهور فى تاريخ الأدب بلقب (ديك الجن)؟ لقد تزوج جارية له تسمى (ورد) ، وكان مدنفا بحبها لجمالها الخارق. فتركها وسافر عنها مدة من الزمن، فوشى بها أحد أقربائه ( أخوه أو ابن عمه أو ... ) ، وأبلغ ديك الجن أنها خانته فى غيبته ، فقتلها ، وبعدها ظهرت براءتها، فعاش يبكيها أحر البكاء وأمرَّه، ومما قاله فيها:

رويت من دمها الثرى، ولطالما= روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيهـا
قد بات سيفى فى مجال وشاحها= ومدامعي تجرى على خديهــا
فوحق نعليها وما وطئ الحصى=شيءٌ أعز علي من نعليهـــــــــــا
ماكان قتليها لاني لم أكـــــــــن=أبكي اذا سقط الذباب عليهـــــــــــا
لكن ضننتُ على العيون بحسنها=وأنفتُ من نظر الحسود اليهـا
ويخاطب زوجته الثاوية تحت أطباق الثرى قائلا:
أَساكِنَ حفرةٍ وقَرارِ لَحْدِ * مفارِقَ خُلَّةٍ من بَعْدِ عَهْدِ
أَجِبْني إنْ قَدرْتَ على جوابي * بحَقِّ الودِّ كَيْفَ ظَلَلتَ بَعْدِي
وأَيْنَ حَلَلْتَ بَعْدَ حلُولِ قَلْبي * وأَحْشائي وأَضلاعي وكَبْدي
أَمَا واللَّهِ لو عايَنْتَ وَجْدي * إذا اسْتَعْبَرْتُ في الظَّلْماءِ وَحْدي
وَجَدَّ تَنَفُّسِي وعَلا زَفيري * وفاضَتْ عَبْرَتي في صَحْنِ خَدِّي
إذَنْ لعَلِمْتَ أَنِّي عن قَريبٍ * سَتُحْفَرُ حُفْرَتي ويُشَقُّ لَحْدي
يَقولُ: قَتَلْتَها سَفَهاً وجَهْلاً * وتبْكيها بكاءً ليس يُجْدي
كصَّيادِ الطُّيورِ لـه انتحابٌ * عليها وهو يَذْبَحُها بِحَدِّ
وَيَعْذلُني السَّفيهُ على بُكائي * كأَنِّي مُبْتَلًى بالحُزنِ وَحْدي

ولنترك ديك الجن ومأساته الباكية التى صنعها بطيشه وتسرّعه وسوء ظنه ، ولنصل فى ديوان العرب الى القرن السابع الهجري لنطالع أهم القصائد وأصدقها فى رثاء الزوجة وهى قصيدة الشاعر النجرانى القاسم بن على بن هتيمل الضمدي .
ويسجل الشاعر في قصيدته يوم وفاة زوجته وحملها الى مثواها الأخير، ويتمنى لو كُفنت بجلده ، ودُفنت فى ضلوعه يقول الشاعر المفجوع :

يَؤُوبُ الغَائِبُونَ وَكُلُّ مَيْتٍ
يُشَيَّعَ مَا لِغَيْبَتِهِ إيَابُ
::
بِنَفْسِي عَصْرَ يَوْمِ السَّبْتِ نَعْشٌ
تَدَاوَلُهُ المَنَاكِبُ والرِّقَابُ
::
تُسَلُّ إلىَ الحُفَيْرةِ مِنْهُ شَمْسٌ
تَبَلَّجَ فِي جَوَانِبِهَا شِهَابُ
::
مِنَ الخَفِرَاتِ يُخْفِي اللَّيلُ مِنْهَا
إذَا مَا جَنَّ مَا لاَ يُسْتَرَابُ
::
فَفِي الوَقَدَاتِ كَانُونٌ إذَا مَا
لَهَوْتُ بِهَا وَفِي الشَّتَوَاتِ آبُ
::
مُخَدَّرَةٌ يَطِيبُ الطِّيْبُ مِنْهَا
وَتَعْبِقُ مِنْ تَرائبِهَـــا السَّــــحـــَابُ

ويعز على الشاعر أن يوسد هذا الجمال التراب، وأن يهال على وجه زوجته الحبيبة وخدها الأسيل وعينيها الساجيتين، وهي التي عاشت رقيقة غضة تتدفق بالصبا الغض والشباب الطري ، ومن هذه المفارقة الفادحة بين غضاضة هذا الجمال ورقته وبين ظلمة القبر ووحشته ، وقسوة التراب يهز الشاعر فينا مشاعر الحزن والأسى، يقول الضمدي :

أوسدك التراب وكنت أحفــــــى * عليـــــــه أن يباشره التراب
فما فعل الثرى ويــــــــد الليالي * بجسم كــــانت تؤلمه الثياب
ومـــا فعلت محاجرك السواجي * ومـــــــا فعلت ثناياكالعذاب
يهون لـــــــــــوعتي الا حساب * عليك من الإله ولاعقـــــاب
فما خلد الفــــــــواطم فيه قديما * ولا سكنت سكينةوالـــرباب

وتموت زوجة الوزير محمد بن عبد الملك الزيات مخلفة له طفلا فى الثامنة من عمره، ويهز الشاعر بحزنه أوتار قلوبنا من خلال مأساة هذا الطفل الصغير ، يقول الشاعر:

الا منرأى الطفل المفارق امه...عيدالكرى، عيناه تنسكبان
رأى كل أم وابنها غير امه...يبيتان تحت الليلينتجيان
وبات وحيدا في الفراش تجنه....لابل قلب دائمالخفقان
الا ان سجلا واحدا ان هرقته....من الدمع او سجلين قد شفياني
فلا تلحياني ان بكيت فأنما....اداوي بهذا الدمع ما تريــــــــــــــــــــان

ولجرير الشاعر الأموي قصيدة فى رثاء زوجته أم حرزة يحيي فيها جمالها وخُلـُقها الرفيع ، ويدعو لها بالرحمة ، ومن أبيات هذه القصيدة ما ذكرناه في الحلقة السابقة :

ولهت قلبي إذ علتني كبـرة وذوو التمائم من بنيك صغار
صلى الملائكة الذين تخيروا والطيبون عليـك والأبـرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ليل يكـر عليهـمُ ونـــهـــــــــارُ

وفى هذه القصيدة يظهر ملمحان موضوعيان: الأول شعور الشاعر بالحرج لرثائه أنثى معللاً ذلك بالحياء ، فيقول فى البيت السابق مباشرة.

لولا الحياءُ لهاجني استعـبارُ === ولزرت قبركِ ، والحبيبُ يـُـزارُ
وكانت العرب تعيب رثاء الزوجات خاصـة والأنثى عامةً ،،،

أما الملمح الموضوعي الثانىفهو أنه اتخذ من هذه القصيدة فى رثاء زوجته منطلقا لهجاء الفرزدق الذى يقال أنه عاب أم حرزة وأظهر الشماتة فى جرير لموتها. يقول جرير:

أفأم حرزة يا فرزدق عبتمُو === غَضَبَ المليكُ عليكم القهارُ

ولننتقل مع الزمن الى العصر الحديث لنرى الشاعر السعودي محمد بن عبد الله بن بُليهد ابن قرية غِسلة بغرب الرياض تموت أحب زوجاته إليه فى فبراير سنة 1933 فيحزن عليها حزنا شديدا ، ويبكي عليها بكاء مراً ،ويرثيها بقصيدة منها الأبيات التالية ، التي يدعو لها ربّه عز وجل فى عالمها الآخر، وتغلب عليه روح الحكمة وهو يصور أحزانه وزهده فى شارع الحياة فيقول :

رعاك الله بعدي من فقيد= عزيز لا يباع ولا يسامُ
فمالي بعد رحلتكم مرادٌ = بتلك الدار يذكر أو مـرامُ

وفى سنة (1991) م توفيت زوجة الشاعر أحمد محمد الشامي، ولكنه على شاعريته القادرة يعجز عن رثائها لأن الحزن أخرس قلمه ، وترك البيان للدموع والآهات الحرّى ، وهو ما يحدث لكثيرين من الشعراء عند فقدهم أقرب الناس اليهم ، لكن الشاعر بعد عامين يفيض وجدانه بقصيدة ملتاعة يقول فيها:

أنا الذى ظَلْتُ أبكي الصحب منتحبا = بالشعر لم تنحبس في موقف كلمي
بَـعْد الحبيبة مات القول iiوانتحرت= اوزان شعري كأني صرت ذا بكم

والآن عزيزي القارئ : هل سمعت بكتاب " أنات حائرة" ؟ إنه الديوان الذى نظمه عزيز أباظة وصدر سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وألف (1943) ، وكل قصائده في رثاء زوجته التى توفاها الله قبل ذلك بعام ، والديوان يكاد يكون ترجمة نفسية للزوجة الحبيبة ، وهو تصوير أمين صادق لأثر هذا الغياب الأبدي فى نفس الشاعر ونفوس الأهل والأحباب .
ومن أروع المشاهد التى صورها الشاعر وأشدها تأثيرا في النفس مشهد احتضار الزوجة وكلماتها الأخيرة قبل أن تلقى ربها بساعة أو بعض ساعة ... يقول عزيز أباظة:

خـصَّهـا الله بـامتحـانٍ غلـــــــــــــيظٍ = حـمَلَتْه حـمـلَ الشَّكـور الـمطـيــــــــــق
دفعت صدرهـا إلــــــــــــــــــيَّ وألقت = رأسَهـا عـند راعـــــــــــــــدٍ ذي خُفُوق
ثـم قـالـت فـي أنَّةٍ تتهــــــــــــــاوَى =أَزِفت سـاعةُ الفراق السحـيــــــــــــــق
لا تُرَعْ واحـمـلِ الفجــــــــــــيعة جَلْدًا = لستَ للضعف عـندهـا بخَلـيـــــــــــــــق
وأشـارت لطفلةٍ تشهد الهــــــــــــــــو = لَ بقـلـبٍ دامٍ وجَفْنٍ غريــــــــــــــــــق
قـالـتِ: ارْعَ الأولادَ، وابقَ كـمـا كُنْـــــ = ـتَ مـثـالَ الأب الـمحـبّ الرفـيــــــــــق
ومضت تـنزعُ الـحـيـاة، وتُلْقــــــــــــي = فـي زفـيرٍ آصـارهـا وشهـيــــــــــــــق
فـي سنًا لامحٍ وعَرْفٍ ذكــــــــــــــــــيٍّ = وابتسـامٍ عذبٍ ووجهٍ طلـيــــــــــــــــق
لـو تـراهـا تقـول قـد مسَّهـا الـبَهْــــــ = ـرُ ، فـمـالـت إلى سُــبـاتٍ رقـيــــــــــــق
ووقفـنـا مـروَّعـيـن نُجـيل الطْـــــــــــ = طرفَ بـيـن الـتكذيب والـتصديـــــــــــــق
ثـم عُدْنـا للـحق عـانـيـــــــــــن صَرْعَى =مـن مُفـيـقٍ يـهـذي وغـيرِ مُفـيــــــــــق

وهناك ديوان آخر اختص برثاء الزوجة هو ديوان " من وحي المرأة " للشاعر عبد الرحمن صدقىالذى كان موت زوجته الشابة المثقفة صدمة عاتية له ، وفيه يصور بعد فراقها عذابه ووحدته فى بيته، ويجتر ذكرياته الطيبة معها.وفى إحدى القصائد يتحدث الشاعر عن المشكلات التى خلفها فقد زوجته ، وهى كما سنرى –غير ما عهده الناس وتعارفوا عليه ،يقول الشاعر عبد الرحمن صدقى :

مماتك في الريعان اصمى مقاتلي = وفقديك من عيشي مثير مشاكلي
وكنت الغنى من مشكل بعد مشكل = وعقدات نفس تستديم قلاقلي
أدور بعيني كالشريد بلا هوى = ولا منزل مثل الهوى والمنازل
رأيت الغواني وهي لهو ومظهر = وأنت مزاج من جميل وكامل
ورقة احساس وعفة نظرة = ولفظ وتفكير وحفل فضائل
أقول لدهري فيم فيم حرمتني=وكل عزائي كان فيها ونائلي

أسائله في كل يوم وليلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة= ولن ينتهي مهمـــــــــا حييت تساؤلـــــــــــــــــــــــــي
ويقدم لنا الاستاذ الشيخ عصام العطار نموذجا رائعا من رثاء الزوجات لما استشهدت زوجه" الاستاذة بنان على الطنطاوي " في مدينة أخن على أيدي القتلة الارهابيين ، فقال :

" بنانُ" يا جبهةَ الإسلام داميةً
مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍِ
"بنان" ياصورة الإخلاص رائعةً
ويا مثال الفِدى والنبل والكــــرم
عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطنٍٍ
ملاحماً من صراع النور والديم
الكيد يرصدنا في كل منعطفٍ

والمـوت يرقبنا في كل مقتحمِ
ولعل من أروع الامثلة في رثاء الزوجة في الشعر الحديث ، بل اروع واعظم واجمل ما كتب نزار قبانى في حياته الشعريه على الاطلاق
انها قصيده (بلقيس) التى كتبها عام15/12/1981 ، وفيها

يرثي حبيبته وزوجته ورفيقته السيدة "بلقيس الراوي"
التى قتلت في حادث تفجير السفارة العراقية في لبنان ،
وهذا الحادث استهدف نزار قبانى لقتله معنويا
ولكن نزار اخرج لهم على الاطلاق اجمل كلمات
ففى هذه القصيده نراه يشكر قاتِليها ثم يهجوهم
ونراه يغازل بلقيس ثم يلومها ثم يشكرها
اجمل كلمات قيلت في كل انواع الشعر سواء الغزل ام الهجاء ام الرثاء ام الشكر
ماذا اقول في هذه القصيده
يكفي قولا انها من اروع ما دبَّج "نزار توفيق قباني" من شعر على الاطلاق ، وأقتطف منها :
شُكْرَاً لَكُمْ
شُكْرَاً لَكُمْ
فحبيبتي قُتِلَتْ وصارَ بوسْعِكُم
أن تشربوا كأساً على قبرِ الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت ..
وهَلْ من أُمَّةٍ في الأرضِ ..
- إلاَّ نحنُ - تغتالُ القصيدة ؟

بلقيسُ ...
كانتْ أجملَ المَلِكَاتِ في تاريخ بابِلْ
بلقيسُ ..
كانت أطولَ النَخْلاتِ في أرض العراقْ
كانتْ إذا تمشي ..
ترافقُها طواويسٌ ..
وتتبعُها أيائِلْ ..
بلقيسُ.. يا وَجَعِي ..
ويا وَجَعَ القصيدةِ حين تلمَسُهَا الأناملْ
هل يا تُرى ..
من بعد شَعْرِكِ سوفَ ترتفعُ السنابلْ ؟
يا نَيْنَوَى الخضراء ..
يا غجريَّتي الشقراء ..
يا أمواجَ دجلةَ . .
تلبسُ في الربيعِ بساقِهِا
أحلى الخلاخِلْ ..
قتلوكِ يا بلقيسُ ..
أيَّةُ أُمَّةٍ عربيةٍ ..
تلكَ التي
تغتالُ أصواتَ البلابِلْ ؟
أين السَّمَوْأَلُ ؟
والمُهَلْهَلُ ؟
والغطاريفُ الأوائِلْ ؟
فقبائلٌ أَكَلَتْ قبائلْ ..
وثعالبٌ قتلتْ ثعالبْ ..
وعناكبٌ قتلتْ عناكبْ ..
قَسَمَاً بعينيكِ اللتينِ إليهما ..
تأوي ملايينُ الكواكبْ ..
سأقُولُ ، يا قَمَرِي ، عن العَرَبِ العجائبْ
فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ ؟
أم مثلنا التاريخُ

* دراسة للاستاذ جابر قميحة في الموضوع نفسه .
دواوين الشعراء المذكورين في متن المقالة : جرير والحطيئة وديك الجن الحمصي ونزار قباني في اعماله الكاملة ،
ومجلة الرائد ( تصدر في المانيا ) حيث نشر العطار قصيدته في رثاء الشهيدة " بنان " التي قتلها عناصر من الاستخبارات السورية
في مدينة " أخــن " بالمانيا ...
تعليقات