الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا
ولو قلت للقارئ الكريم أن العربي استخدم اسلوب نقل الحرارة الى السوائل المحيطة بحامل الحرارة ، منذ اكثر من ألفي سنة ، فماذا سيقول ؟؟؟
جاء في لغة الجذور \ مادة ( ر ض ف ) :
والحَمَلُ ( الخروف أو الجدي الصغير ) المَرْضُوفُ : تُلْقَى تلك الحجارة إذا احمرَّت في جوفِه حتى ينشوي الحمل . قال شمر : سمعت أَعرابيّاً يصف الرَّضائف فقال : يُعْمَدُ إلى الجَدي فَيُلْبَأُ من لبن أُمه حتى يمتلئ ، ثم يذبح فَيُزَقَّقُ من قِبَلِ قفاه، ثم يُعْمَدُ إلى حجارة فتحرق بالنار ثم تُوضع في بطنه حتى ينشوي؛ وأَنشد بيت الكميت :
لم تُؤْن أَي لم تَحْبِسْ ولم تُبْطِئْ . وفي هذا يقول الأَصمعي : الرضْفُ الحجارةُ المُحْماةُ في النار أَو الشمس ، واحدتها رضْفةٌ؛ قال الكميت بن زيد :
وجاء في لسان العرب لابن منظور : الرَّضْفُ: الحجارَةُ التي حَمِيَتْ بالشمس أَو النار، واحدتها رَضْفةٌ. غيره: الرَّضْفُ الحجارة المُحماةُ يُوغَرُ بها اللَّبَنُ ، واحدتها رَضْفةٌ . ويوغر اللبن أي يطبخ ويغلى فيتغير من حالٍ الى حال . وقال الأزهري: رأيت الأعراب يأخذون الحجارة يوقدون عليها، فإذا حميت رضفوا بها اللبن البارد الحقين، لتكسر من برده، فيشربونه، وربما رضفوا الماء للخيل إذا برد الزمان ،
وفي حديث الهِجْرة : فيَبِيتانِ في رِسْلِها ورَضِيفِها ؛ الرَّضِيفُ اللبن المَرْضُوفُ ، وهو الذي طَرِحَت فيه الحجارة المُحْماةُ لِيذْهب وخَمُه . وهو ما يفعله الانسان المعاصر ، يغلي اللبن فيصنع منه المرق ويضيف اليه قليلا من النشاء او الطحين ، فيعطيه قوامه المعروف ، ويسمونه في البادية الشامية وفي سيناء وحوران وفلسطين المرقة ، وهذه المرقة اللبنية(مع شيء من الدسم) يسكبونها على اللحم والثريد أو البرغل المطبوخ ، وهي أكلة معروفة ولذيذة في المناطق المذكورة ، تسمى لدى البدو " الهفيت " أو الثريد ، وفي الخليج خاصة يدعونها " فريد " بقلب الثاء فاءً ، او المنسف في الاردن أو المليحي في حوران ، باستخدام الأقِـط ، وبعضهم يسميه " الكثي " او الجميد او الكسيح ، وهو لبن مجمد ، يُحفظ على شكل كتل ذات طعم رائع .
ومن المجاز عند القوم ، مطفئة الرضف : وهي الداهية تنسي التي قبلها فتطفئ حرها، ومنه المثل: جاء فلان بمطفئة الرضف ، قاله أبو عبيدة ، وقال الليث: مطفئة الرضف: شحمة إذا أصابت الرضفة ذابت فأخمدت حرَّ الرضفة الحامية . وفي التراجم يطالعنا شاعر عربي اسمه " المستوغـر " (1) ، وهـو المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد . و قال عنه المرزباني في معجم الشعراء : المستوغر و اسمه عمرو ابن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .وقيل إنه مات في صدر الإسلام ، و يقال أنه عاش إلى أول أيام معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه ، و لكن أبو حاتم السجستاني يقول : عاش ثلاثاً و ثلاثين و ثلاثمائة سنة ، و قال آخرون أقل من ذلك .و ذكر النسابون إنه عاش ثلاثمائة وعشرين سنة ، فأدرك الإسلام أو كاد يدرك أوله ، و قال ابن سلام : كان المستوغر قديماً ، و بقي بقاء طويلا حتى قال :
و قال المفضل الضبي : عاش زماناً طويلاً ، و كان من فرسان العرب قبل الإسلام . و في تقدير عمره مبالغات تجانب الحقيقة ، والاختلاف في اسمه جواب لكل من يبالغ و يرسل تسلسلات النسب إلى ما قبل الإسلام تخميناً وظنَّـاً ، فكل المؤرخين و النسّاب اختلفوا بأسماء المشهورين من الرجال و النساء فكيف للمغمورين الذين سحقتهم عجلة الزمن و ذرتهم رياح العصور . و قد ذهب مثلا قوله ذلك : " لعلني مضلَّلأ كعامر" . (2) و قال أبو حاتم : إنما المثل حسبتني مضللا كعامر ، و أوردنا طرفا من ترجمة المستوغر هنا لغاية جذورية مهمة وهي لماذا لُـقّب بالمستوغـر ، أو طالب الوغــر والوغيـر ؟؟؟
ورد في البيت لفظ "الرَّبَلات " وهي : جمع رَبْلَةٍ ورَبَلَة ، وهي باطن الفخذ .
والرَّضْف ( نعيد ما أسلفنا ) : حجارة تحمى وتطرح في اللبن ليَجْمُد ، وقيل: الوغِيرُ اللبن يُغْلى ويُطْبَخُ . وقال الجوهري : الوَغِيرَةُ اللبن يُسَخَّنُ بالحجارة المحماة ، وكذلك الوغير . وقال اللغوي ابن سيده : والوَغِيرَةُ اللبن وحده مَحْضاً يسخن حتى يَنْضَجَ ، وربما جعل فيه السمن ، وقد أَوغَرَه، وكذلك التوغِيرُ؛ قال الشاعر: فَسائِلْ مُراداً عن ثلاثةِ فِتْيَةٍ، وعن أُثْر ما أَبْقى الصَّرِيحُ المُوَغَّرُ والإِيغارُ: أَن تُسخن الحجارة وتُحْرِقَها ثم تلقيها في الماء لتسخنه . وقد قدمنا بما فيه الكفاية وما يغني عن الاعادة ويقطع بان العرب قد عرفوا المرق والمليحي واللبن المطبوخ منذ القدم وأسموه باللبن الوغير ، وقطعا كانوا يضيفونه سكباً على الخبــز المثرود أو البرغل وما ضارعه . وهكذا عرفنا أن العرب كانوا سباقين في فن نقل الحرارة ، والرضائف ( جمع رضف ورضفة ورضيفة ) هي حجارة بمواصفات معلومة تخزن الحرارة والطاقة الشمسية ، ثم تؤخذ ليغلى بها الماء واللبن او يسخن بها الطعام بل شووا بها ذبائحهم ، فما المانع أن نسمي الوشائع المعاصرة رضائف ، فالوشيعة ( في لغة الجذور ) : كُبَّةُ الغَزْلِ .
والوَشِيعُ : خشَبةُ الحائِكِ التي يُسَمِّيها الناسُ الحَفَّ ، وهي عند العرب الحِلْوُ إِذا كانت صغيرة، والوَشِيعُ إِذا كانت كبيرة . تُكبكب عليها الخيوط والغزل . والوَّشِيعةُ: خشَبةٌ أَو قصَبةٌ يُلَفُّ عليها الغَزْلُ ، وقيل : قصبة يَجْعلُ فيها الحائِك لُحْمةَ الثوبِ للنسْجِ ، والجمع وَشِيعٌ ووَشائِعُ ؛ قال ذو الرمة :
والتوْشِيعُ: لَفُّ القُطْنِ بعد النَّدْفِ، وكلُّ لَفِيفةٍ منه وَشِيعةٌ؛ قال رؤْبة: فانْصاعَ يَكْسُوها الغُبارَ الأَصْيَعا، نَدْفَ القِياسِ القُطنَ المُوَشَّعا الأَصْيَعُ: الغُبارُ الذي يجيءُ ويذهب، يَتَصَيَّع ويَنْصاعُ: مرة ههنا ومرة ههنا.
----------------------------------------الحاشية :
و(1)جاء في (حديث مقطوع) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ ، نَا سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، نَا الْأَصْمَعِيُّ ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَابْنِ الْعَجَّاجِ : " إِنَّ الْمُسْتَوْغِرَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ مَرَّ مَرَّةً بِعُكَاظٍ وَهُوَ يَقُودُ ابْنَ ابْنِهِ خَرِفًا وَابْنِ الْعَجَّاجِ : إِنَّ الْمُسْتَوْغِرَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ مَرَّ مَرَّةً بِعُكَاظٍ وَهُوَ يَقُودُ ابْنَ ابْنِهِ خَرِفًا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ! أَحْسِنْ إِلَيْهِ ، فَطَالَمَا أَحْسَنَ قَالَ : أَوَتَدْرِي مَنْ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، هُوَ أَبُوكَ أَوْ جَدُّكَ . قَالَ : هُوَ وَاللَّهِ ابْنُ ابْنِي . فَقَالَ الرَّجُلُ : لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ فِي الْكَذِبِ وَلَا مُسْتَوْغِرَ بْنَ رَبِيعَةَ " . قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ : وَعَاشَ الْمُسْتَوغِرُ ثَلَاثَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً " .
(2) في أمثال بيهس زاد حبيب بن عيسى بعد أن أورد المثل ((لعلني مضلل كعامر)) قال: ومما زاده في هذا الحديث/ المثل ما قاله المستوغر ((إن المعافى غير مخدوع)) ، فهذا الثاني زيادة لا ندري من أضافها، وإن أصبحت في كتب الأمثال من بعد هي المعتمدة ، وتوارى المثل الأول ((لعلني مضلل كعامر)) أو انقطعت صلته بأخيه المثل السابق .
أكتب تعليقك هتا