الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا
يرتبط المدلول اللغوي لـلـجذر العربي ( ر ث ى ) بالميت والبكاء والتفجع وذكر مآثره ومناقبه ، حتى قيل : الرثاء هو مدح للميت بما كان يتصف به في حياته من صفات كالكرم والشجاعة والشرف والسيادة. وكذلك الرثاء هو بكاء الميت وندبه ، وإظهار التفجع لوفاته، وتعديد محاسنه ونظم الشعر فيه ، ويصدر عن عاطفة الحزن . ومن عادات العرب البائدة استئجار النائحات لهذه المهمة ، وفي تفنيد عاطفتهن المصطنعة قالوا : " ليسَتِ النائحةُ كالثـكـلـى " !
والرثــاءُ في الأصل مصدر للفعل ( رثــى ) فيقال :"رثيت الميت رثياً ورِثاءً ومرثاةً ومرثية"، "ويدل ( رثــى ) في أصله اللغوي على التوجع والإشفاق". وأخذ مدلول الرثاء يرتبط بالقصيدة الشعرية , ويقول ابن فارس صاحب مقاييس اللغة : بأن " الراء والثاء والحرف المعتل ( ى ) أُصَيْلٌ ( مصغّـر أصل ) يدل على رِقّة وإشفاق . يقال رثَيْتُ لفُلان : رقَقتُ لحاله . ومن الباب الـرِّثـْيـةُ ، وَجَعٌ في المفاصل أسماهُ الطب المعاصر بالروماتيد ، أو الروماتيزم ، وقولُهم رَثَى الميِّتَ بشعرٍ من الباب ذاته . ومن العرب من يقول : رَثَأْتُ ( بالهمز) . وليس بالأصل ، كما أشار ابن فارس ".
وأرثــأ اللبن خثـر ، وتقول العرب : " إنَّ الرثيئة مما يطفئ الغضب " ، والرثيئةُ خليط من اللبن الحامض والحلو ، وإطفاؤها للغضب مضارع لإطفاء الماء له ، تسكين وطمأنينة بعد هياج ...
والرثــــــــاء في اللغة يعني : بكاء الميت وتعداد محاسنه. يقول ابن منظور ، صاحب لسان العرب : "رَثى فلان فلاناً يَرْثيهِ رَثْياً ومَرْثِيَةً إِذا بكاهُ بعد مَوته . فإِن مدَحَه بعد موته قيل رثَّاهُ يُرَثِّيه تَرْثِيةً. ورَثَيْت الميّتَ رَثْياً ورِثاءً ومَرْثاةً ومَرْثِيةً ورَثَّيْته : مَدَحْته بعد الموت وبَكَيْته . ورثَوْت الميّت أَيضاً إِذا بكَيْته وعدَّدت محاسنه ، وكذلك إِذا نظَمْت فيه شعراً " . وعرفه بعضهم بأنه "حسن الثناء على الميت" . وقيل في رثى : " رثى الميت رثيا ورثاء ورثاية ومرثاة ومرثية بكاه بعد موته وعدد محاسنه ومناقبه ، استئناساً بالحديث النبوي الشريف : (( اذكروا محاسنَ موتاكم )) .
و يقال رثاه بقصيدة ورثاه بكلمة ، ورثـى له رَحِـمَـهُ ورقَّ له وكأنه يرثي حاله ويتوجع له ، (رثاه) مدحه بعد موته (المرثاة) ما يرثى به الميت من شعرٍ وغيره ".
1. والرثــاء باب من موضوعات الشعر العربي ، مثل الهجاء والغزل وهو من أبرزها ، لأنه أصدقها وأكثرها تعبيراً عن المشاعر الإنسانية ، لأنه يرتبط بالموت ، وبالحزن على من قد ماتوا، وفارقوا الحياة وارتحلوا الى العالم الآخــر . وقد اشتهر في الرثـــــــاء قديما تماضر بنت الشريد الملقبة بـ"الخنســاء" لرثائها أخويها ثم أبنائها – على ما قيل – فقدَتْهُـمْ في القادسية ، وعلى التحقيق فإن من فقدت أبناءها الاربعة ليست خنساءنا هذه ، وإنما سيدة غيرها ، ولنا تحقيق للموضوع منشور في مجلة " المنهل " السعودية قبل سنوات ...وهيى القائلة :
أعينيّ جودا ولا تجمدا = = = ألا تبكيان لضخر النـدا ؟
ألا تبكيان البهيَّ الجميل ،= = = ألا تبكيان الفتى السيّدا
طويل النجــاد رفيع العمــــــــــــــادِ ، ساد عشيرته أمردا
كما اشتهر في الرثاء من رجال الشعراء الهذليين أبو ذؤيب الهذلي ، برثـائه أبناءَهُ الأربعة :
أمِنَ المنون وريبـِــهِ تتوجّـــــــعُ والدهــرُ ليس بمعتب من يجــزَعُ ؟
ومن الشعراء من رثى نفسه كما فعل مالك بن الريب ، وآخر هو ابن زريق البغدادي في عينيته المشهورة وما وجدت له من الشعـر غيرهــــا ، ويُـصَنّف لأجل ذلك مع شعراء الواحدة :
لا تعــذليه فإنَّ العــــذلَ يولعـــه قد قلتِ حقا ولكن ليس يسمعــــــــه
جاوزت في نصحه حدا أضرّ به من حيث قدّرتِ أن النصح ينفعـــــهُ
"وللرثاء ألوان ثلاثة وهي الندب والتأبين ، والعزاء ، وأبرزها الندب وهـو "بكاء الأهــل والأقارب حين يعصف بهم الموت " ،،، ومن أبلغ ما قرأت في هذا الباب في الشعر العربي ، ندب الزوجات ، وفي القمة منها :
لولا الحياءُ لهاجني استعـبـارُ ولزرتُ قبرك والحبيبُ يُــــزارُ
ولـّهْتِ قلبي إذْ علتني كبــرةٌ وذوو التمائم من بنيك صـغـار
فرثاء الزوجة خاصة والنساء عامة والتفجع عليهن وبكاؤهن مكروه في أدبيات القوم ، فما بالك بزيارة قبرهــا وتعداد مناقبها ومحاسنها ، إنها " تــابــوو " من المحرمات !!!؟؟؟
ومن هذا المنطلق فإني أعـدُّ رثـــاء الزوجات من أصدق ما قيل في الرثاء عمومـا ، وأذكر هنا مأساة ديك الجن الحمصي ، الشاعر العباسي الذي قتل زوجته ، لوشاية من أخيه أم ابن عمه ، ثم عرف أنه كاذب فراح يتوجع ويتفجع ويرثيهـــا بأرق وأعذب وأفظع العبارات المؤثـــــرة ، حتى أنه راح يقسم بنعليها ، وقيل أنه صنع من التراب الذي خالط دماءها كأســـا ، ظل يعاقر الخمرة منه حتى مات ، ومن رثائه لهذه المظلومة ، المسماة " ورد " :
فَوَحَقِّ نَعـْليها وما وطئَ الحصى = شيءٌ أعـزُّ عليَّ مِنْ نعـليهــــــا
ما كان قتـليهــــــــا لأني لم أكـنْ = أبكي إذا سقط الغـبـــارُ عليهـــا
لكن ضننتُ على العيون بحسنها =وأنفْتُ من نظرِ الحسودِ إليهـــــا
وسوف يكون لنا وقفــة خاصة مع رثــــــاء الزوجات في الشعر العربي في الحلقة القادمة من " جذور " بإذن الله تعالى ، لأنه – كما أسلفت – باب شعري صادق ، ذو دلالات مؤثرة ومعبرة ...
أما الجذر ( ر ف أ ) باستبدال الثاء بحرف الفاء ، استدلالا بالقرآن الكريم الذي أبدل الثاء بالفاء في " فومها "على رأي كثير من أهل التفسير ، في قوله تعالى : ((... فادعُ لنا ربّكَ يخرجْ لنا مما تنبت الأرضُ من بقلها وقثائها وفــومـهـــا وعدسها ....)) سورة البقرة \جزء الآية 61 ، فهو جذر دالّ على التسكين من رعب ، وعلى الملاءمة ، من قولنا رفـأتُ الثوبَ أرفؤه ، ورفأت الرجل سَـكـّنْـتُ روعَـه ( لا حظ الاقتراب من معنى الرثـاء) ، قال أبو خراش الهذلي :
رَفَـوْني وقالوا يا خويلدُ لا تُـرَعْ فقلتُ وأنكرت الوجوهَ : هُــمُ هُــمُ
و الريث ، هو البطءُ والتمهّـلُ ، خلاف العجل ، قال لبيد بن ابي ربيعة رضي الله عنه :
إنّ تقـوى ربنـا خيرُ نـفـــل وبـإذن اللهِ ريثـــي وعـجــــل
وهو من العائلة الرثـوية نفسها( وقانا الله وإياكم من الرثاء والرثية) ، لكنه بنكهة البطء وعدم الاستعجال ، قلت : أوليس هذا شــأنُ الراثـي ؟ لا يستعجل في تعداد مناقب مرثيه ، بل يتريث وكما يقال : ( يعـد للعشـرة ) !!!
ومن العائلة الثراء( ث ر ي ) ، والإرث ( و ر ث \\ أ ر ث ) فالأولى كثرة المال والثانية ما يتركـُهُ الميت بعد ارتحالهِ من ثروةٍ وثـــراء ، قدْ ينتفعُ به هو وقد ينتفع به الورثــة فقط ، ويكون وَبــالاً على المورِّث ، ومن هنا كان دعاء أحَـد الأنبياء عليهم السلام جميعاً :
" اللهم إني أعوذُ بك من مالٍ يكون وَبَــالا عليَّ ويستمتعُ بهِ غيري " ... وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
هامش : - لسان العرب لابن منظور ومقاييس اللغة لابن فارس( ت 395 هـ )والمحيط للفيروزابادي والصحاح للجوهري ، ودواوين شعر الشعراء المذكورين ....
أكتب تعليقك هتا