الدكتورة : علياء ابراهيم - مصر
في طريقي إلى قاهرة المعز، مغادرة مدينة الإسكندرية؛مسقط رأسي، وهوى نفسي؛ بصفاء سمائها وهوائها وبحرها، وذكرياتي فيها التي أحملها في قلبي أينما ذهبت، مع كتبي التي تأخذني دائماً بعيداً عن عالمي وواقعي إلى عوالم أخرى، أتنقّل بينها بسعادة وشغف، تساءلت بيني وبين نفسي: ترى، ما الكتاب الذي سيكون جليسي في الأيام التي سأقضيها بعيداً عن الإسكندرية؟ فإذا بعينيّ تقعان على كتاب وصلني بإهداء رقيق من مترجمته الأستاذة غادة جاد، لمؤلفه اليوناني -عاشق الإسكندرية- (هاري تزالاس).
ما إن وقعت عيناي على عنوان الكتاب الذي أصدره مركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط بمكتبة الإسكندرية عام 2016 ، حتى تيقنت أنني لن أترك (أسكندريتي)، حتى لو بعدت عنها، فالكتاب عنونه مؤلفه بـ (سبعة أيام في فندق سيسيل)، فكان العنوان كافياً أن يثير في نفسي ذكريات الطفولة والصبا والشباب؛ ففندق سيسيل ليس فندقاً عادياً، فهو أشهر فنادق الإسكندرية الذي استقبل العديد من القادة والملوك والساسة والفنانين في زمن مضى وولى، ولا يزال حتى الآن علامة مميزة لمدينة الإسكندرية.
يتمركز الفندق بمنطقة محطة الرمل، التي كانت في فترة ماضية بديلاً رحباً جميلاً عن "المولات" التي تصيبني بكتم الأنفاس، ويطلّ على البحر الأبيض المتوسط، الذي قرر الإسكندر الأكبر ألا يتركه وحيداً، فاختار له شريكة حياة عروساً هي مدينة الإسكندرية (عروس البحر المتوسط)؛ المدينة الساحلية الساحرة، المفعمة بالغموض، الغنية بكنوز أراضيها، وانفتاح بحارها على أهم الحضارات القديمة، والتي قُدّر لها أن تحتضن أعظم مكتبات العالم القديم؛ مكتبة الإسكندرية التي كانت بمثابة الجسر الذي ربط بين الحضارتين المصرية القديمة والإغريقية، بل ويجمع المؤرخون على أنها كانت موطنا لأقدم جامعة عرفها التاريخ القديم والتي نالت شهرة عالمية في كافة التخصصات العلمية والإنسانية بشهادة المؤرخ الروماني (اميانوس ماركلينوس) الذي كتب مشيرا إلى ذلك: " أن خير تزكية كان في مكان أي طبيب أن يحصل عليها هي أن يقال أنه أتم دراسته في جامعة الإسكندرية.".
لابد أن أعترف عزيزي القارئ أنني أحسست بانحياز لقراءة الكتاب الذي صدر في طبعته الأولى باليونانية عام 2000، ثم بالإنجليزية بعد عشر سنوات من صدور الطبعة اليونانية، فمؤلفه الذي وُلد في الإسكندرية تمتد أصوله لليونان وإيطاليا، وقد عاش في الإسكندرية منذ عام 1936 حتى رحيله في العام 1956 إلى البرازيل، ثم اليونان، ومترجمته هي الأستاذة غادة جاد، (الأسكندرانية) المتخصصة في الأدب اليوناني والروماني، والكتاب هو باكورة إنتاجها في مجال الترجمة، وكاتبة هذا المقال، التي تحتضن الكتاب بشغف في المقعد الخلفي للسيارة، أيضاً (إسكندرية المولد والهوى)، وبحكم سنوات الدراسة والتدريس، متخصصة في الآثار والحضارة اليونانية والرومانية.. تأملت هذا المثلث (السكندري) بامتياز، الذي ضم الكاتب والمترجمة والقارئة، فتساءلت بتعجب: ترى، هل نبحث عن الأشياء التي نحبها، أم هي التي تبحث عنّا وتنجذب إلينا؟
كاتب سبعة أيام في فندق سيسيل (هاري تزالاس) الذي عمل في مجال الآثار البحرية، وتخصص في مجال تضاريس الإسكندرية خلال العصور القديمة والوسطى، اشتاق لزيارة الإسكندرية - مسقط رأسه - بعد سنوات طويلة من رحيله عنها، فعبّر عن حنينه إليها قائلاً: (أشعر بالإثارة والتوق لها ، كأنني في سبيلي للقاء معشوقة بعد غياب سنين).
وعلى الرغم من ترشيح دار النشر- التي كانت قد طلبت من الكاتب (هاري تزالاس) أن يعدّ دليلاً إرشادياً سياحياً عن الإسكندرية- للمهندس المعماري (سوريال) ليصحب المؤلف بعد غيابه الطويل عن المدينة ، إلا أن (هاري) كانت لديه رغبة كبيرة أن ينفرد بإسكندرية طفولته في رحلة استكشافية لمدينته الأثيرة، وقد عبّر عن ذلك قائلاً: (أردت أن أقلّب برفق، وعلى مهل، تلك الذكريات التي طالما اشتقت إليها في أغوار روحي.. أردت أن تتملكني الشجون، وأن تتحرك مشاعري، وربما رغبت كذلك في أن أبكي على الأيام الخوالي، لذا رغبت أن أبقى وحدي).
بدأ الراوي رحلته من شرفة حجرته بفندق سيسيل، ليرى منظراً عبّر عن اشتياقه له قائلاً: (من غرفتي في الفندق، استقبلت بلهفة المنظر الذي طالما حُرمت منه لأمد طويل ... رحت أملأ عيني من الساحل على مهل)، لكنه سيدرك تدريجياً، كما أدركت أنا وأبناء جيلي، أن التغيير طال كل شيء، وهو ما لاحظه من شرفته، وخلال رحلته التي دامت سبعة أيام، لكن عشقه لمدينة طفولته، ساعده على تقبّل التغييرات التي طرأت عليها، فلم يتذمر منها مثل بعض الزائرين، معبّراً عن وجهة نظره هذه قائلاً: (قلت لنفسي: لا يجدر بك أن تنظر إلى الإسكندرية بوجه شديد الصفاقة. إن هذه المدينة ليست الحاضر وحسب، بل إنها الماضي كذلك. إنك تستشعرها بأعين مغماة، ولا تمعن النظر في وجهها، وإنما تحسّها بفؤادك).
بدا للراوي، من خلال تجواله في الإسكندرية؛ المدينة التي يبلغ عمرها 2300 عام، أنه يتجوّل بين مدن عدة في مدينة واحدة؛ بطلمية ورومانية ومسيحية مبكرة، وكذلك مدينة الفتح العربي، والمدينة العثمانية، فعبّر عن هذا التمازج بين الحضارات قائلاً: (الإسكندرية المدينة العالمية، إحدى عجائب التعايش، حيث يحيا أناس بسطاء من شتى الأجناس والمذاهب والقوميات معاً حياة قوامها التناغم والازدهار).
ظلّ الراوي في كل لحظة من جولاته بأرجاء مدينته يعاني ازدواجية استثنائية؛ فمن ناحية يرى المكان الحالي على أرض الواقع وما طاله من تغيير، ومن ناحية أخرى تنتعش ذاكرته لترسم للقارئ ما كان عليه المكان نفسه فيما مضى، وتتدفق في قلبه مشاعر جيّاشة تجاه المكان والزمان، وبينما يتجوّل في الشوارع التي اكتظت بالأسواق والسكان، كان يصرّ على زيارة المناطق الأثرية، التي اختلفت بطبيعة الحال عما كانت عليه في (أسكندريته)، ليمنح القارئ معلومات تفصيلية عن تلك المناطق، فتتجسد بتفاصيلها في ذهني، لتدمع عيناي شوقاً إلى تلك المواقع الأثرية التي وقفت فيها طالبة أستمع إلى أساتذتي الكرام، ثم أستاذة أشرح فيها لطلابي الأعزاء.
لن يكون الراوي خلال يومياته السبعة وحيداً، لكن ستصطحبه في جولاته شخصيات عدة؛ وسواء أكانت شخصيات حقيقية، أم من وحي الخيال، فإن وجود هذه الشخصيات (التي تجسدت في الأميرة سيسيل علي طوسون؛ المواطنة الفرنسية التي وُلدت بالإسكندرية ورحلت عنها في سن صغيرة، وابنه شقيقتها الشابة الفرنسية، والمؤلف الإنجليزي وليام ترافير، الذي عاش في الإسكندرية لفترة قصيرة، ودأب على زيارتها بين الحين والآخر، وغيرهم) سيضفي على الحوارات الدائرة أبعاداً سياسية وفلسفية وتاريخية وعقائدية، تجسّد وجهات نظر متباينة تجاه الحياة في الإسكندرية أيام زمان والآن، تبعاً للخلفيات الثقافية والعقائدية لهذه الشخوص.
فالحوار الذي دار بينهم ـ مثلاً ـ عن ظاهرة التحنيط عند المصريين القدماء، ما بين رافض ومتقبّل ونافر، ذكّرني بما كنت أؤكده لطلابي دائماً من أنه لا يمكن أن تنظر إلى الأثر وتقيّمه بمعتقداتك التي قد تختلف كلياً عن معتقدات الإنسان الذي أنتج هذا الأثر، والذي قرر أن يجسّد عقيدته ومفاهيمه في مبنى أو تمثال أو قصيدة شعر، أو حتى قصة في زمن غير الزمان؛ وهكذا لابد وأن تتلاقى الحضارات والثقافات والأديان والذي تجسد ـ مثلاً ـ في مشهد زيارة هاري (المسيحي) مقابر اليهود، مصطحباً مرشداً سياحياً مسلماً، وعندما سمعا آذان الظهر وهما أمام مقبرة طفلة يهودية، بدأ المرشد في أداء صلاة الظهر،فتعجب أن تحيط حشود من الأرواح اليهودية مسيحياً ومسلماً!
عزيزي القارئ يمكنك أن ترى الأماكن وتعيش الذكريات والأحداث مع الراوي والشخصيات التي صحبته خلال الأيام السبعة، ومع نهايات هذه الأيام، ستشعر بقدرة الكاتب الفائقة على أن يخلق من الأمكنة والأزمنة والشخصيات لوحة رائعة من الفسيفساء، لا تكاد الأعين تخطئ تفاصيلها وألوانها وروعتها، لينجح خلال سبعة أيام في استنطاق الآثار الصامتة.
وهل سيستطيع الكاتب أن يعدّ دليلاً سياحياً إرشادياً عن المدينة الماضية والحاضرة، أم أن كل زائر لها يمكنه أن يخلق (أسكندريته الخاصة به)، كما عبّر مخاطباً القادم إلى المدينة قائلاً: (يا من جئت من آفاق بعيدة، بوسعك أيضاً أن تصنع أسكندريتك، الخامات كلها هنا، وكل ما عليك فعله أن تؤلفها معاً وأنت شبه مغمض العينين).
أكتب تعليقك هتا